شتاء العجائز

الصفحة الاخيرة 2018/12/07
...

محمد غازي الاخرس
..ومن دلال التقدّم  في السن الشعور بالبرد وارتداء الجوارب اليوم بطوله. يحدث الأمر معي منذ سنتين أو ثلاث حتى أنني لأعجب من حالي وأتساءل: هل الأجواء باردة لهذه الدرجة؟ 
لكن مع تكرار الأمر بتّ متأكدا أنه قرينة على عبور الخمسين. حتى سنوات قليلة، كنت لا أعبأ بالبرد إلّا نادرا، بل كنت أعجب ممن يشكوه ويدرع له بالمعاطف والبلوزات السميكة، عدا هذا، ما كنت لأضع أي اعتبار للزكام  أو الانفلونزا، أكتفي لها بالراحة 
فقط. 
ولطالما عجبت من أم العيال التي تؤمن بجدوى زرق الإبر وعزوت ذلك لتربيتها البيتية. أقول لها دائما أن أمي عودتنا على مقاومة الأمراض لوحدنا، وكانت نادرا ما تذهب بنا إلى المضمّد. لها نظرية تفيد أن مقاومة جسم الطفل تضعف مع كل إبرة يأخذها، وهذا صحيح علميا 
برأيي. 
المهم أن طريقة تفاعلي مع البرد والشتاء اختلفت بشكل واضح خلال السنوات الثلاث الماضية. لم أعد شتائي الهوى كما كنت قبل ست سنوات أو سبع. لم أعد أعشق المطر وأسعد بالسير تحته دون 
شمسية. 
كلا، بل اضطررت قبل أسابيع لشراء شمسيتين ووضعهما فوق الكنتور تحسبّا، وكل ذلك لأن السماء “زختها عليّ” وكأنها تعاقبني، ثم ظللت لقرابة 500 متر ألهث كي أصل إلى أي سقف يقيني لسع المطر وكفخات الريح الباردة. نعم، الطبائع تتغير بفعل تأثير الزمن في الجسد. فيما مضى مثلا، كان الشتاء محبوبي لأنني أتصوره فصل الركون إلى الذات واحتضان المدافئ وتأمل نيرانها الصغيرة المتراقصة. أمّا الآن، فبت أشتاق إلى الصيف اشتياق أدريس إلى الجنة. 
فيه لا أضطر لملء الصوبات بالنفط، وأثناءه لا أختنق بالملابس السميكة. سابقا، كنت مغرما بالجاكيتات، لكنني اليوم لا أفضّلها لأنني أبدو معها وكأنني أكبر سنا. 
للعمر (حوبة)، والسنين لا تمضي جزافا إنما تترك ميسمها على الجسد وطبائعه، على طريقة تلقيه للفصول والأيام، على طريقة إحساسه بالريح حين تئن خارج الدار. العمر يبدل كل شيء، الأفكار التي تراودك وأنت تتأمل السماء المكتظة بالغيوم، حتى على انتباهتك الحزينة لمجيء الصباح وتوقع الصعوبات التي تلاقيك وأنت تنهض من فراشك لتذهب إلى 
العمل. 
ظهرك الذي يؤلمك والدوار الذي تشعر به وأنت تستقيم فتواجهك مرآة الكنتور. تنظر بحزن وتقول: ما هذا يا إلهي.. كم أبدو عجوزا اليوم! وفي الأخير، قبل أن تنحني للبس حذائك وشد قياطينه، من الممكن أن تهمس بيأس وأنت تنظر إلى نقطة وهمية في الأعلى: متى تتساوى الفصول، ويتحول الجسد إلى جزء من الطبيعة؟ متى ينتهي كل هذا التبدل المزعج في المزاج يا إلهي.. متى؟