يتجسَّد النصُّ الأكثرُ شهرةً الذي يتبنّى الدفاعَ عن موضوعةِ الحياةِ المعاصرةِ بمقالةِ بودلير التي كتبها في العام 1863 بعنوان «رسّامُ الحياةِ الحديثة»؛ حيث الاقطابُ المركزيةُ تنهارُ بشكلٍ مُفاجئ.
كان بودلير يكرهُ الواقعيةَ اعتماداً على الأُسس نفسها التي رأيناها عندَ ﭼارلس كَزِن، وكوتر مير، وديلا كروا المتمثلة بالتأكيدِ على قناعةِ أنَّ الفنَّ يجب أنْ يُحدِث شيئاً أكثر ابداعاً من التقليدِ الذليلِ للطبيعة، ساخراً من عقائدِ التطوّر التي ليست لها صلة بالفن. ومقالةُ بودلير تشيرُ الى التنميةِ الحاسمةِ لأنَّها تقدمُ قناعةً موضوعيةً للحياةِ الحديثة التي لم تعد مرتبطةً بأجندةٍ
اخلاقيةٍ.
وبدلاً من ذلك فإنَّ المُصطلحَ الرئيسي هو «الجمال». إذ تردُ هذه المُفرَدَةُ بما لا يقل عن 21 مرةً في القسمِ الأول من مقالةِ بودلير إذْ يعلنُ فيها عن رغبتِه في «تأسيسِ نظريةٍ عقلانيةٍ وتاريخيةٍ للجمال» تُناقضُ النظريةَ الاكاديميةَ التي تؤكِّد الجمال الفريد والمطلق.
إنَّ الجمالَ متكونٌ من عنصرٍ أبديٍّ ومتغيرٍ، من الصعوبةِ بمكانٍ تحديد مقداره، فارتباطُه مَنوطٌ بعنصرٍ ظرفي ونسبي، والذي إنْ شئتَ النظرَ الى تمثُّلِه سواء بشكلٍ جماعي أو أُحادي؛ والتطلّعُ اليه مَقروناً بزمنهِ، أو بطرازِه، بوجودِه المعنوي وحركتِه... وإنَّني لأتحدى أيَّ فردٍ يُحدِّد لي مادةً واحدةً لجمالٍ لا يتضمن هذين العنصرين.
ولقد واجه هذا الإفضاءُ أو الاعلان، في بعضِ الاحيان، الانتقادَ. وفي أحايينَ كثيرة تمّ تجاهلُه من قبل المؤرخين والنقاد المتخصصين بصورةٍ رئيسيةٍ بواحدٍ من هذا التفرع الثنائي -الأبدي والمتغير- المتضمن دعمَ بودلير لموضوعِ الحياة المعاصرة، والذي يبدو مناسباً بشكلٍ خاص في عالمِ فنٍّ سينتج في وقتٍ لاحقٍ جيلَ الانطباعيين.
لكنَّ بودلير شأنّه شأنَ ديلا كروا يأخذُ على مَحملِ الجدِّ مشكلةَ كيفيةِ خلقِ الفنانِ لعملٍ ليس فقط نسبياً في وقته، أو فردياً لهذا الفنان بل و»جميلاً» بمعنى
عالمياً أيضاً.. يمكن ملاحظةُ ذلك بالعودةِ إلى وصف «كانت» الأساسي للتجربةِ الجماليةِ الذاتية والشاملة على حدٍّ سواء.
غير أنَّ هدف بودلير له جانبٌ حاسمٌ من هذه المشكلة يتعلَّقُ بالبُعدِ الزمني والتجربةِ الجماليةِ الذاتية، القائمةِ على مواجهةٍ مباشرةٍ وفريدة مع الموضوع: موضوعُ الحاضر وحداثةُ الناظر. ولكنْ إنْ كانَ الأمرُ كذلك كيفَ يُمكن تفادي النظر إلى التجربةِ على أنَّها ليست أكثرَ من مُجرّدِ نزوةٍ عابرةٍ ؟ .. وكيف نُقيِّم حياتنا، عندما لا تكون «حديثة» بالنسبةِ لنا، أو لمخاوفِنا الاجتماعية
والانسانية؟ في نهايةِ القسم الاول يُعلن بودلير أنَّه تجاوزَ «الفكرة المجرّدة» وسوف ينتقلُ الآن إلى ما يقول عنه «الجزءُ الايجابي والواضح من موضوعي» مما تبقى من مقالته بغيةَ استكشافِ رسوماتٍ لفنانٍ يرمزُ له تحديداً «السيد سي ﮔـي» كاسمٍ مُستعارٍ، نستدلُّ عليه بسهولةٍ فنعرف أنّه «قسطنطين گَيز ( 1802-1892 ) الذي لم يتخلَّ عن رؤيتِه النظريةِ المبدئيةِ إليه كفنان، أعلن أنّه «فنانُ
الرسوماتِ الحديثة».
ويستمر على امتداد مقالته بالحفاظِ على توازنٍ سحري بين «العنصر الظرفي النسبي» و «العنصر الأبدي المتغير» للجمال. ويبدو أنَّ اختياره لـ «قسطنطين گَيز» بدلاً من اختياره لرسامَين كبيرين مثل «كوربيه» أو «مانيه» مِمَّن لهم لوحات تُشير إلى الحداثة تدلل في ضوءِ دراستِه وبحثهِ على انحيازهِ لصالحِ العنصر النسبي الظرفي. فرسومات «گيز» كما يراها بودلير رُسمت لتعكسَ اهتمامات اللحظةِ المارّة. فمعظمُ هذه الرسومات تَمَّ رسمَها لتصوّر أخبارَ لندن التوضيحية كَشكلٍ من أشكالِ التقارير
المصورة آنياً.
وإذا كان بإمكان بودلير إثباتَ أنَّ هذه الرسومات هي من الحلقات الرابطة بين «الجمال» و «الأبديّة» فضلا عن اللحظة الآنية العابرة والسريعة الزوال، فعليه أيضاً أنْ يتمكَّن من ايضاحِ أهميةِ الحداثةِ في التجربةِ الجمالية، ليس فقط تقديم مبرراتِ تصويرِ الحياةِ الحديثة في
الفن.
فلوحةُ «جنود واقفون» لگيز بنظر بودلير تُمثل الحداثةَ بينما نراها نحنُ لوحةً تقليديةً تحملُ طرازاً قديماً: وهي تعرضُ مجموعةً من الجنود بتفاصيلَ كافيةٍ للإشارة إلى القرنِ التاسع عشر. يَظهر ذلك من خلالِ ازيائهم، وبمشهدٍ يعرض فيه شجاعتَهم في
ساعاتِ التدريب.
فالصلابةُ واستقامةُ القامةِ، والانتصابُ بثقةٍ، وحركة الرأس المشيرة الى الغطرسةِ كلّها تشيرُ إلى رجالٍ يدركون عُظمَ انتمائِهم المهني الاحترافي.
* تمت الترجمة من كتاب: الجمال والفن ART « THE BEAUTY AND “ لإلزابيث بريتِجون.