عن الجدوى الفنيّة والاعتبار

ثقافة 2020/02/15
...

محمد ثامر يوسف
 
ليس بإمكان أية مجموعة ضخمة من الأعمال الفنية، مهما كان عددها وتنوعها من تلك التي تقدم وفقا للطريقة المتبعة هنا اليوم، أن تحدد مستوى معيّنا يمكن النظر منه لتطورات التجربة التشكيلية العراقية في الداخل، أو الركون لثوابت عامة فيها، متفق عليها خلال عقد ونيف. أقول في الداخل وأعني جملة من الملامح التي يجب أن تُراعى في تحديد القيمة والتصنيف الاعتباريين، حيث يسري، كما جرت العادة، هذا الـ”لا نظام» المعقد والهش في تقديم الأعمال الفنية وعرضها.
أتحدث عن ظاهرة داخلية تسم هذا المشهد وتطبعه (وهذا لا علاقة له بقوة الإبداع الفردي، كلّ على حدة، هذا موضوع آخر). وكذلك في الخارج حيث لا ينشعل الفنانون العراقيون، في الغالب، إلّا ببلورة تجاربهم الشخصية بمعزل عن تكريس ظاهرة هوياتية عراقية، هم المقيمون في بلدان شتى ويتشربون من نوافذ معولمة وإنسانية أعم، حتى وإنِ انعكست بعض مظاهر الروح المحلية في أعمال بعضهم، فما ذلك إلّا في سياق اختباري طويل يخص تجاربهم كل على حدة. لكن قصدنا هنا من ذلك هو كيف يجري السؤال الملحّ عن طبيعة هذا الفن اليوم وعلاقته الإشكالية بكافة تحولات المشهد العراقي الاجتماعية والسياسية المحتدمة طيلة السنوات الماضية، كيف يقدم وكيف ينمو الآن تواصلا مع تجربة عراقية مؤسسة كانت باهرة رغم كل الظروف الإشكالية؟
أوجز ذلك سريعا كي أُنوّه فقط لطبيعة 
وأنماط إقامة المعارض الفنية وطريقة انتخاب الأعمال فيها، وفي ذهني الإشارة للمعرض السنوي الشامل لجمعية التشكيليين العراقيين الأخير كمثال، المعرض الذي ضمّ عددا 
كبيرا من أعمال الرسم والنحت والخزف، بدا، 
هو الآخر، كذلك، لا يخالف طرائق وممكنات الإعداد والاختيار وتقييم الأعمال وباقي لوجستيات العرض المعتادة. 
أقول ذلك وأدّعي أنني منحاز، أولا، لقدرة من في جمعية التشكيليين وإلمامهم بغنى تجربة الفن العراقي المعاصرة الطويلة، وهو ما يحمّلهم مسؤولية كبيرة في ضرورة إطلاق عرض ملائم يكون وفيا لفكرة معرض شامل يمثل، كما يفترض، خلاصة ما آلت إليه التجربة العراقية الآن. 
مرة أخرى، لا أريد أن أتبنى مقولات قاسية لزملاء آخرين ما زالوا ينظرون بعين التشاؤم لمستوى الفن العراقي المحلي هنا هذه السنين، أقلّها لطريقة عرضه. لكني مثلما أؤمن بأن فنّا مهما موجودا لم يقدم بشكله الصحيح، فإني أؤمن أيضا بأن ثمة فوضى غير مسبوقة وتسرعا واضحا في تقديم الفن العراقي واختيار المناسب منه لعين المتابع الحريص عبر معارض أقل شأنا إلى حد بعيد مما هو متعارف عليه من تقاليد عريقة في العرض، بل لا تتساوق مع شرعية المنجز المحلي في تاريخه القريب على الأقل. 
ينبغي الإقرار أن هذا الـ”لا نظام» الثقافي يشمل جملة المعروضات الفنية التي ظلت تقدم باستمرار بوصفها تمثيلا لهذه التجربة العريقة، رسمية أو غير رسمية. ومع أني أُدرك، مرة أخرى، مدى قدرة جمعية التشكيليين لاختياراتها والقيمة المفترضة التي تحملها عادة معارضها على حساب ما يتم تقديمه في معارض وزارة الثقافة مثلا، التي تقيم هي الأخرى، بين فترة وأخرى، معارض (شاملة) يتبنّاها موظفون في العادة، كواجب وظيفي تبعا لمستواها الذي نراه، وهما الجهتان الوحيدتان، تقريبا، اللتان تتناوبان على تقديم معارض فنية وذلك في ظل غياب صادم لعروض القاعات الأهلية، إلّا أن ما تقع عليه العين في الغالب لا يلبي الحاجة المطلوبة. 
بين معرض الجمعية هذا وآخر معرض شامل أقامته الوزارة على قاعة كولبنكيان بالتعاون مع جماعة أزاميل نحو أكثر من أربعة أشهر، مسافة تبدو وكأنها الخلاصة نفسها لطرائق عرض لا تريد مغادرة النمط السائد ولا تسعى في البحث عن المختلف والمتجدد والمغاير في التجارب الفنية.
يضمّ عرض جمعية التشكيليين الأخير بعضا محسوبا من الأعمال اللافتة، في ما يحار المتابع في  تقييم أعمال أخرى كثيرة. معظم ما في المعرض الذي ضمّ نتاجات فنانين من أجيال مختلفة، راحت تدور في فلك تجارب سابقة جلّ أفكارها وتقنياتها استنفدت منذ سنوات طويلة، لا أستثني من ذلك أعمالا عُرضت لفنانين متمرسين برزت تجاربهم منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت تصدرت المكان ولم تكن إلّا صدى للوحات قديمة لهم من تلك الفترة، وكأن الزمن لم يمر عليهم بهذه الكثافة والقوة، أتحدث عن مستوى الأفكار والأخيلة وكذا في ما يتعلق بالتنفيذ واستخدام التقنيات المتطورة الملائمة، كأن ثمة أنموذجا فنيا مكررا متفقا عليه يلبي نوعا من نرجسية فنية لديهم لم تغادر هوس الرسام الصانع المهني لا الرسام المهموم المبتكر، نوع أخير من أستذة المعلمين المنظرين التي وكأنها غير معنية بما يحصل حولها فنيا وحياتيا، بل حتى بتحولات الأداء لدى زملاء آخرين لهم من جيلهم في أمكنة أخرى من العالم، وإلّا في أيّة خانة يضع المتابع المنصف أعمالا لفاخر محمد وعاصم عبد الأمير وحيان عبد الجبار ومحمد الكناني وعاصم فرمان ومكي عمران، أو أعمالا أخرى لفنانين من جيل أسبق كسعد الطائي وحميد ياسين وستار لقمان على سبيل المثال لا الحصر، أعمالا تبدو للمرء وكأنها تدوير مرهق لأعمال سابقة عندهم، ومع ذلك فقد ظل متعبا حقا رؤية هذا الكم العام من الأعمال التي كان بالامكان تقليل عددها لحد معقول لصالح المستوى النوعي استنادا لمبدأ الاختيار المناسب والفحص الدقيق، وهي مهمة ليست عسيرة لمن يريد أن يقدم معرضا يتواءم وطبيعة ومستوى الفن العراقي في تجاربه الأساسية، أو لمن لا يزال يتذكر على الأقل مستوى المعارض العراقية ونوعيتها وامكانيات عرضها حتى في أحلك الظروف السياسية والاجتماعية السابقة، في العموم كأنه من الصعب علينا اليوم أن 
نواجه تجربة صاحبها يذهب مدفوعا بهمّ شخصي خالص ينم عن أسلوبية ملهمة أو فكرة اختراعية متطورة أو قابلة للتطور، لا يبدو هذا اليأس شاملا إلّا للطرائق الشكلانية التي تؤطر العمل الفني وطريقة التفكير فيه كنتيجة نظر وعمل شخصي لا يشف عن تأمل وإحساس مفرط. ينبغي أن ننبه إلى 
أننا نشير لطريقة لها علاقة بنظام ثقافي عام ما زال ملتبسا في كل الأحوال، يقع تحت 
ضغط مؤثرات محيطة مختلفة، وهو أمر 
يصيب واقعنا الفني بما يصيب. أقول كي لا نستبعد ذلك من السياق العام المعقد الذي نعيشه بكل أشكاله بالطبع وهو مؤثر بقوة قطعا. 
تحدثت بشكل عام عن الرسم في المعرض، أمّا في ما يتعلق بأعمال النحت فذلك مما له حكاية مطولة، أو قراءة أخرى ربما في ما بعد.