جمعة الحلفي.. الذي ظلّ يفوح بالمسرّات

ثقافة 2020/02/15
...

حسين محمّد عجيل
 
صادف أمس السبت، الخامس عشر من شباط، الذكرى الثانية لفجيعة رحيل الشاعر والكاتب الصحفيّ جمعة الحلفي، وهي مناسبة لاستذكار ذلك الإنسان المكتنز بالمحبّة وروح التسامح ورفعة الخلق، والشاعر الشفيف المنحاز للإنسان أبداً، الذي يصعب التفريق بين قوّة قصائده الفصحى والعامّيّة، والصحفيّ الذي امتاز بمهنيّته وطهارة قلمه، الذي مضى في طريقه مختاراً الانتماء لقضايا شعبه، ونجح في توظيف فضائله وخصاله إنساناً وشاعراً ومثقّفاً، في إنجاح عمل احترافيّ صحفيّ وإعلاميّ يتطلّب الكثير من المصداقية في تحرّي الحقائق، 
وتوخّي الدقّة والموضوعيّة والتوازن، في ظروف استثنائيّة أنهكت وطناً ينتظر شعبه، بفروغ صبر، تبلور نظام حكم رشيد فيه، ويحاول شبابنا وشابّاتنا، اليوم، مستميتين تحقيق كلّ شروطه، فكانت فرادة بصمته الشخصيّة محفورةً في منجزه، وفي نصاعة مواقفه، وبارزةً في إرثه المعنويّ، وعميقةَ الأثر في ضمائر أصدقائه وزملائه ومحيطه العامّ، ولا سيما مَن عملوا معه طويلاً، فعايشوه وعرفوه عن كثب. ولذلك، فليست بغريبةٍ لفتةُ الوفاء، بإبقاء زميلاته وزملائه اسمه وصفته على مجلّة «الشبكة العراقيّة» التي كان يرأس تحريرها، بعد رحيله، وهي لفتة رمزيّة تكتسب أكثر من دلالة، وتقدّم دليلاً ملموساً على ما كرّس الراحل من تقاليد ورسّخ من قيم. 
كان آخر ما دار بيني وبينه، أنّني كتبت له في 
أيّامه الأخيرة، وهو يقاوم بضراوة مرض الموت بعيداً 
عن بلاده، محفّزاً فيه كلّ خلاياه لينتصر عليه، كما انتصر من قبل على غربته بعد صبر ربع قرن، وممّا قلت له في تلك الرسالة: “.... ثقتي كبيرة بأنّ قوّتك 
الروحيّة وحيويّة الإنسان المقاتل المجرَّب فيك، مدعمة بحب الآلاف من أصدقائك وقرّائك... ستكون كلها سلاحاً ماضياً تنتصر فيه على هذا الداء، لتعود لنا...”. 
فأجاب، مساء اليوم نفسه، برسالة قصيرة شعرت بمدى إرهاقه وهي يكتبها، كانت مشبعة بالمحبّة والثناء، كما اعتاد قلمه مع أصدقائه، وختمها بهذه العبارة: “... لقد غمرتني بالمودّة، وسأكون أقوى بهذه المشاعر.. بكلّ تأكيد...”. وأقول الآن: لو أنّ حراك الشباب التشرينيّ السلميّ، هذا الذي يملأ ساحات غالبيّة مدن العراق لاستعادته وطناً معافى، كان هادراً على هذا النحو قبل عامين، لكان وحده إكسير الحياة الذي يعالج جسده ويشفي روحه، ويعيده إلى بغداد معتصماً- بكلّ مسؤوليّة المثقّف- مع شبابها وشابّاتها تحت نصب الحريّة.
كانت أيّاماً عسيرةً على جمعة الحلفي، ولياليها باردة وطويلة ملبّدة بهموم ليل امرئ القيس، سلفه البعيد، وهو يقضيها في مشفى ببيروت، مستذكراً عذابات السيّاب، سلفه القريب الموجوع بوطنه في مشفى يلفّه ضبابُ لندن. 
لم تنفع حميميّة بيروت، هذه المدينة الدافئة بكلّ حدبها القديم المتجدّد على عراقيّي الشتات، في تعويضه عن اليتم الروحيّ الذي كان يعيشه بعيداً عن بغداده، التي لم يشبع منها طوال الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته، فهو من بين القلائل من نخب أبناء المنافي، الذين التصقوا ببغداد ومدن البلاد الأخرى، وفضّلوا أن يتدّثروا بها هم وأسرهم برغم جراحها، ويُدثّروا حزنَها بأرواحهم، على أن يعودوا إلى غربةٍ تكيّفوا معها، وعواصم ألفوا أمانها ومتعها ومكاسب العيش فيها. 
أمّا هو، الطفل الذي لا تتسع سوى بغداد لأحلامه، والذي يُراد له أن يُحشر بجسدٍ يشيخ، فلم يُرِد أن يكرّر، وهو في منتصف عقده السادس، مرارةَ ما لاقاه شابّاً غضّاً، من تجربة أن يُفطم قسريّاً عن براءة طقوسه وفرادة يوميّاته في عوالم مدينته، في فردوس سبيعنيّات القرن الماضي الذي طُرد منه ذات ليلةٍ امتدّ هزيعُها نحو ربع قرن. إنّه لا يريد أن يُفطم مجدّداً حتّى عن سنوات الجمر ببغداد حين استعادها كهلاً، إذ لم تكفه مدّة العقد ونصف العقد من الزّمان، عن أن يعوّض زهرة عمره الضائعة بعيداً عنها.
ومثلما انتظر عودتَه السريعةَ إلى بغداد بشغفٍ، مئاتٌ من صديقات وأصدقاء أحبّة، كان هو الآخر يترقّب تلك العودة بوجلٍ، آملاً نجاح علاجه الكيماويّ في قتل المرض الفتّاك الذي تربّص به وبخلاياه، محوّلاً مسرّاته وهناءاته إلى عذابات ذكّرته بسنيّ اغترابه. أمّا مسرّاته وهناءاته تلك المهدّدة فكانت شخصيّة جدّاً، وبغداديّة حدّ اليتم، لا يكاد يشعر بها غيرُه ودائرةُ أصدقائه المقرّبين، كان يبتكرها وسط غابة الحزن العراقيّ الكثيفة، ويجد فيها، مع القصيدة وفرادة الصداقات، نوعاً من خلاص، ولكن في بغداد وحدها. ولعلّه بعد جزعه في أيّامه الأخيرة من بلوغ الشفاء التامّ، خاف من فكرة عودةٍ من بيروت، شبيهةٍ بعودة الشاعر أحمد الصافي النجفيّ منها إلى بغداد كفيفا مُقْعَداً، بعد أن أصابته إطلاقة قنّاص في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، فهل كان سيقبل بعودة قاسية للدار كتلك، وأن يسمع بغداد ولا يراها؟
ها هي ليلة عيد الحبّ الأخيرة تنقضي، ومع انفراط آخر ساعاتها، وإشراقة صباح خميس جديد، وغياب شمسه، كان قمر جمعة الحلفي قد تكامل، ودورة حياته وصلت أقصى غاياتها، ووصل النعيُّ إلى بغداد، وكلّ صديق له أحسّ بمثل فجيعة المتنبي حين طوى مثل هذا النبأ الحزين الحدود والمفازات ليجيء إليه وحده، وقد داهمني الخبر الصادم عصر اليوم التالي، فوجدتني أكتب بعد ساعات هذه القصيدة: 
 
يا صديقي، جمعة الحلفي!
كيفَ كنتَ تفوحُ بالمسرّات
ويزهرُ الألمُ فسائلَ أملٍ من بين جروح قصيدتك
أنتَ الملتاعُ بلظى البلاد
المتشبّعُ بعذابات ذوي الرؤوس البيض فيها
الساهرُ على ذُبالة ربيعٍ يتفحّم؟
..........
حتى في رحيلك، يا أبا زينة،
كنتَ محتفياً بالحياة،
فاخترت، لأبديّتكَ، خميسَ الأفراح
ومن أيام الجدبِ تخيّرتَ ليلةً ماطرة
ومن الليلِ اصطفيتَ ساعةَ نشوةِ النُّدامى
.............
حين أهالَ عليك غمامُ البلادِ الشحيحُ مطرَه
في هذا النهارِ الذي لم تره،
آخيتَ أبا غيلان
في هجرتكَ الأخيرة!