أمين قاسم الموسوي
بعد أن غادرتْ (جسدُها في الحمام) حيث تصطاد الأديبة الإعلامية ابتهال بليبل أفقاً مفتوحاً يبوح به الجسدُ في مجال مغلق هو (الحمام) وبهذه الجدلية الثنائية بين المفتوح والمغلق، يجود لنا المغلق (الحمام) بما لا يجود به مجال آخر، ولذلك غدا (الحمام) موضوعاً يشع انفتاحاً، رغم مظهره المغلق حتى جعله الشهيد د. علاء مشذوب ثريا لروايته (حمام اليهودي) وجُعِلَ ثيمة لقصة رائعة لأنمار رحمة الله بعنوان (الحمام) نُشِرت في ثقافية جريدة الصباح في 4/2/2020، بعد كل هذا تفتح (ابتهال بليبل) الباب، لتواجه، فتجود لنا بـ (نيكروفيليا بشريط ملون)، وهي في الكتابين لم تجنس إنجازَها عن قصد – كما اعتقد – حتى يكون المتلقي منتجاً ثانياً للنص متسائلاً، أهذه قصائد نثر؟ أهي مقالات اجتماعية؟ أهي قصص قصيرة؟ أهي دراسات ثقافية؟ إن الجواب متروك للمتلقي، فهو يجد قصائد نثر في مطلع العنوان، أو في وسطه أو في آخره، لأن الشعر يفجر بالونات العاطفة، ويصب الزيت على الأشياء ليشعلها، ثم تنساب أفعى المعاني لتجسيد العمق الذي تشعه خلايا العقل: (فأبتلع ريقَ الحنين، وأدير رأسي بقلق ربة بيت فقدتْ بحماس شديد رغبتها في شراء لوازم المطبخ) ص106، فثمة تناغم لصور الحداثة، وامتداد ظلال المعنى إلى أعماق النفس، بمجاز جديد (ريق الحنين)، وابتلاع الريق يوحي بمشكلة، ممّا جعلها تدير الرأس بقلق ربة بيت، وربة البيت تكسر التوقع: (لأنّها فقدت بحماس شديد رغبتها في شراء لوازم المطبخ، فالألفاظ والجمل يأخذ بعضها بتلابيب بعض لرسم صورة حداثوية لامرأة معاصرة شكلاً ومضموناً، ولا ضير في ذلك من أدب نسوي، لكاتبة عبرّت عن (الجمع بصيغة المفرد): (إنها تميل إلى ارتداء القصير والصاخب والمثير، خلف جدران تخصها وحدّها، وحدَهن، ونوافذ لا تطل على اتجاه يقنن انوثتها) ص104، إنها تضع يدها على حقيقة دور المرأة واشعاع وجودها: ( الكآبة التي كانت تحاصر هؤلاء الرجال في المكان، بدأت بالانقشاع مع دخول الأنثى) ص155، هذا ما أكده كل المتنورين الذين يرون الحياة موتاً إذا ما خلت من أصلها، ولذلك كتبت نوال السعداوي (الأنثى هي الأصل)، كما قال الأديب الجزائري محمد ديب: (لولا البحر والمرأة لمتنا جفافاً)، وإذا كان القارئ يتمتع بهذه الأفكار، فإن الكاتبة لا تكتفي بالامتاع وحده، وإنما هي تضيف إضافات معرفية في كثير مما تناولت فَـ(نيكروفيليا)، مرض نفسي يتلخص بميل المصاب به بالانجذاب الجنسي لجثث الموتى، وهو موضوع نادر قد لا يعرفه إلّا المختصون بعلم النفس، وقد تناولته بليبل بنجاح كبير، يكشف عن ثقافة ومتابعة كبيرتين، تَبرز هذه الثقافة وتلك المتابعة في كل ما كتبت، فهي تشير إلى: (النظرية التعبيرية للفن الألماني، التي – على وفق مصادرها – انقاذ البشرية والعالم من الانهيار عبر تغيير الفرد نفسه، ومن ذلك يتغير المجتمع بالضرورة) ص101.
فالكاتبة موسوعية الثقافة (انسكلوبيدية)، بما يمكنها من كشف المضمر والمسكوت عنه، معتمدة منهج النقد الثقافي الذي يهتم أيّما اهتمام بالمهمش وكشف الأنساق المضمرة في آيّة ظاهرة من الظواهر التي يعالجها.
عوداً على بدءٍ أقول: إن (نيكروفيليا بشريط ملون) وسابقهُ (جسدُّها في الحمام)، قصائدُ نثر، ومقالات اجتماعية تعتمد علم الاجتماع الثقافي الذي أرسى جذوره د. علي الوردي، وتحقيقات صحفية ممتعة في موضوعات تحتاج جرأة كبير، وقصص تسيل جمالاً سردياً كما في (الشيفر الجميل) ص57 و(الأريل الذي بات وحيداً) ص159، هي كل هذا لأنها تضيف وتكشف، وتؤثر، وهذا مبتغى كل كاتب حين يكتب، ورجاء كل قارئ حين يقرأ.