الحداثة التي نتحدث بها

ثقافة 2020/02/16
...

ياسين النصير

في مؤتمر الشعر الخامس الذي عقد في القاهرة بين 13-17 كانون الثاني2020، كان الحديث عن الحداثة يشمل معظم اطروحات النقاد وحتى الشعراء في قصائدهم، ولكن ما لفت انتباهي أننا لا نعرف عن أدب بلداننا العربية إلّا القليل، وهذا ما يؤشره المتحدثون عندما يضربون أمثلة عن جذور الحداثة، فليس لديهم اطّلاع على بقية ما يجري من تطور لمفاهيم الحداثة في غير بلدانهم، خاصة في ما يخص قصيدة النثر مثلا، وتحولات الشعرية في ضوئها. وأذكر حادثة واحدة، وهي أن الأستاذ رشيد الشعرباف، قد كتب مقالًا سمّاه "الشعر المنثور"، ونشره في مجلة "لغة العرب" لأنستاس الكرملي الجزء الخامس ص 371 واعتبرته أول مقال في العربية يتحدث عن الجذور الدينية والثقافية المستمدة من التوراة والإنجيل والكتب المقدسة عن قصيدة الشعر المنثور، تميزًا لها عن شعرية النثر. ولكن لا أحد يعتبر هذا مصدرًا عامًا، لأنّه لم يدخل ميادين التوثيق في أيّة مرحلة من مراحل النقد الشعري، ولذلك كثر الحديث عن قصيدة النثر من خلال جذورها المصرية واللبنانية والسورية، التي تبدو أكثر توثيقًا من مصادرنا العراقية، ففي كتاب محمد جمال باروت "الحداثة الأولى" ط1، 1991، الصادر عن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، يؤكد أن جذور الحداثة الأولى، بدأت بجبران خليل جبران وصولًا إلى مجلة شعر، منطلقًا من المشروع القومي السوري، وأن سوريا في رأيه هي "مصدر ثقافة البحر المتوسط"، فالسوريون (هم الذين مدّنوا الأغريق ووضعوا أساس مدنيّة البحر المتوسط التي شاركهم فيها الأغريق في ما بعد)، كما يقول أنطون سعادة، في كتابه "النظام الجديد" ج7، 1950. 
وهكذا يبني باروت ثيمة الحداثة على منطق إقليمي  سياسي، وليس على منطق التلاقح الثقافي مع التراث  العربي والعالمي، ومع ما ترجم من الثقافة الغربية. كما أن هناك من يرجع الحداثة للأدب المصري وحده، من دون غيره من خلال ما كتبه الأدباء المصريون بعد بعثاتهم العلمية في بداية القرن العشرين وأواسطه، ثم انتقلت الحداثة إلى العراق وغيره، ولكن حيثيات مؤتمر الشعر الخامس أثبتت أن الحداثة شأن مشترك بين ثقافة البلدان العربية، دلل عليه شعار المؤتمر مشاركة جذور الحداثة بين ابراهيم ناجي والسياب، وعقدت ندوتان مهمان عن السياب وابراهيم ناجي لتوضيح هذه الجذور. ويعزو بعضهم أن جذور الحداثة في الأدب العربي،  تمتد عميقًا في التراث الشعري والاجتماعي نتيجة لحركات التجديد من المعتزلة والقرامطة والزنج، فجذورها سياسية اجتماعية إضافة إلى سعة الاشتغال بالشعر خاصة ميادين اللغة، يضاف لما حدث من تأثر الشرق الأوسط بمجريات الأحداث بعد الحرب العالمية الثانية، أدت إلى ظهور نخبة من المثقفين التقدميين في مصر والعراق وسوريا ولبنان، وعلى مختلف المستويات الإبداعية: القصة والشعر والتشكيل والعمارة والفكر، وقد تأثرت توجهاتها الفكرية بروح النصر العالمي على الفاشية وظهور تيارات التحديث والحداثة من خلال تلك الأفكار التحررية والتقدمية، وكانت حصة البلدان العربية منها تطلعات الحداثة على مستويات اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة، ومنها الشعر، وكنت أنا من مشايعي هذا التأثير من دون إغفال مساهمات الترجمة من تطويع المفردة الشعرية وجعلها أكثر يومية وحداثة من قوالبها القديمة، لتجيء منتجات السياب ورعيل الحركة الأولى للحداثة متزامنة مع تطلعات أدباء ومترجمين عرب متنورين، ليؤسسوا بنية واضحة لحركة جديدة في الشعر العربي، تطورت لاحقًا إلى أشكال حداثية جديدة  قدمت عنها رؤية نقدية تحت عنوان "الحركة الثانية لقصيدة الحداثة". 
ليس بمقدور أيّة حركة سياسية وحدها أن تطور حداثة أدبية، فكلما تحررت الشعرية من التأثيرات السياسية والأيديولوجية، تمكنت من أن تجوس حقول التراث العربي والمثيولوجيا والأسطورة وثقافة الشعوب الأخرى، ولدينا ذخيرة من المراجع التي ثبتها أدونيس في ديوان الشعر العربي وفي كتابه المفصلي "الثابت والمتحول". والحديث لا تتسعه مقالة في صحيفة.