ما أثار هذا الموضوع هو فيلم من أفلام هيسَشكوك. وما كانت الإثارة حد تدفعني للكتابة لو لم تكن قد شغلتني باشكال أخرى من قبل في ما كنت أفكر فيه بين حين وآخر لا سيّما حين وصلت الستين، أي قبل اثنين وعشرين عاماً.
ما كنت أفكر فيه وأتساءل في صمتي وعزلتي: أهو الإنسان أفضل وأجدى له أن يكون كما هو، أم كما يرضي الناس؟ تعدد واختلاف التجارب التي مررت بها وما شهدته وأشهده في حياة الناس تسحبني لـ "أن يرضي الناس" أي يتلبّس حقيقة أخرى غير حقيقته. لكن، أليس في هذا خسارة لأنموذج بشري هو أنا أو أنت أو آخر نعرفه أو نجهله؟
المثل العراقي المعروف "كُلْ ما يعجبك والبس ما يعجب الناس" يؤيد ما وصلت إليه. هذا يعني أن الناس مهتمون عموماً بإرضاء سواهم أكثر من إرضاء أنفسهم أو التعبير عنها.
سؤال آخر قبل الاستسلام: وماذا يضرنا إذا تلبسنا حقيقة أخرى ترضي الناس ما دمنا نشعر ونعرف حقيقتنا؟
هنا لا نفرح بهذا التخلص، لأننا نواجه مغبة الاستسلام أو عاره أو الألم. نحن نهمل أنفسنا طيلة تلك المدة، حتى إذا عدنا إلى منازلنا وغرفنا رجعنا إلى أنفسنا التي هجرناها.
لكشف المسألة أكثر نعود إلى فلم هيسَشكوك Vertigo الذي تناولته بالتحليل أوليفيا لانغ في كتابها "المدينة الوحيدة"، وخلافاً لما نظنه في قصص وأفلام هيسَشكوك، هو هنا يهتم بقضايا فكرية وفلسفية وإشكالات فردية مهمة ومنها هذا الفيلم وهذه المسألة.
Vertigo فيرتجو تعني "دَوار" و بهذا أشار إلى محنة محيرة أو إشكال يتعب الذهن ويحيّر، أي أننا في قلب المشكلة التي قدمتُها أول الكلام. لنتوسل بالفيلم وشخوصه لعل نرى. الفيلم يناقش الأقنعة و الأنثوية والرغبة الجنسية. أكثر وأهم أجزاء الفيلم انهيار سكوتي بسبب انتحار عشيقته ماديليان، ليهيم بعدها في شوارع سان فرنسيسكو المتعرجة وليلتقي يجودي. وهنا، بحضور "جودي" نعود وندخل في صميم قضيتنا والموضوع الذي نتحدث فيه عن حقيقة الإنسان وهل الصواب والمريح النافع أن يتخلى عنها ويتلبس حقيقة أخرى أم يحتفظ بحقيقته ويعاني ما يعاني؟
سكوتي يريد أن يصنع من جودي هذه ماديليان التي افتقدها. يضطرها لأن ترتدي مثل ثوبها، أن تختار التسريحة مثل تلك التي لمادليان وحين يُقبلها يُقبل ماديليان من خلالها ثمة فضاء، مسافة تخلو من الحميمية والحقيقة الإنسانية. فجودي هنا امرأة يتم إرغامها على المشاركة في مسابقة جمال أنثوية مروعة لا تنتهي كي تصبح شيئاً يسعى للقبول، أو لإمكان أن يرضي، بل أن يعوض عن إنسان آخر
مات!
أياماً عديدة ومناسبات خضعت فيها جودي لتغييب الذات لتحمي جسدها منه، من العقاب، لتنجو! مرة أوصلها إلى صالون الشعر وذهب إلى الفندق الذي يقيمان فيه. تعود جودي وقد صارت شقراء وتسير نحوه عبر الممر، لكن شعرها، التسريحة فيها نقص انتبه له. فيقول لها سكوتي: يجب عليك أن تربطي شعرك، أخبرتك بذلك فتذهب جودي إلى الحمام كي تقوم بهذا التعديل الذي يجعلها تنهي مراحل الانتقال إلى شخصية حبيبته ماديليان! وأمثلة من هذه مدمرة كثيرة..
ماذا نقول الآن ومن هو الضحية؟ أهو الرجل الذي لا يستطيع إلّا أن يحب صورة وهمية – لا حقيقة وراءها وهو يدري – أم المرأة التي لا يمكن أن تحصل على الحب إلّا عن طريق التظاهر بأنها امرأة أخرى – أي أن تخسر حقيقتها؟ نحن لسنا أبداً في مواجهة أحداث فيلم ولكننا نواجه هذا التعقيد، هذا الامتحان. هذا الاضطهاد في كل حياتنا، في البيت والعمل وحتى في
الكتابة! فأكثر الكتاب رواجا هم أولئك الذين يتناولون أو يلامسون بقصدية حرفية ما يثير أو ما يمتع أو ما يرضى الناس وهذا في الشعر أيضاً. وفي الحياة الاجتماعية من يتقدم هو من يُرضي، أي نوع من الارضاء!
وفي أحوال كهذه يبقى قلة من الناس محتفظين بحقيقتهم، مكتفين بصمتهم وهم يرون سواهم، الأقل شئنا،
يتقدمون.