جواد الأسدي: الممثلون يذهبون مع النص بعيداً نحو جمرة النور

ثقافة 2020/02/17
...

ضياء الأسدي
 
نجحت ورشة عمل المخرج جواد الأسدي في استقطاب جمهورٍ نخبويٍ واسعٍ يوم أمس على مسرح الرافدين، خلال عرض مسرحيَّة «حنين حار» نص وإخراج الأسدي نفسه وجسد أدوار البطولة الفنان الدكتور مناضل داود والنجمة آلاء نجم رافقهما في رحلة الجمال والألم العازف أمين مقداد، بينما تولى عملية الإضاءة عباس قاسم والديكور للفنان محمد النقاش.
 
وجعُ النشيد
لم يتباين العرض عن سلسلة ما أتحفنا به الأسدي في مسرحياته ذات المحتوى والشكل المتفرد في الطرح والأداء، والراسب في خزينه المعرفي وقدرته الحاذقة على تقديم مسرح رصين استطاع أنْ يغترفَ منهما برقي حذر، منح خلالهما ممثلي العرض قدرا فائقا من الارتقاء بالأداء والوصول به الى ضفافٍ عالية من الجمال المتضافر مع الحس الفني.
جواد الأسدي المنهمك بالمسرح دائما قال في تصريح لـ الصباح»: إنَّ «(حنين حار) هي وجعُ النشيد في حشود الفتيان، وآلهة الأرض البور ممن يضربون بمعولٍ حاذقٍ ما تراكم من غبار الضيم والجوع».
منوها بأنَّ «البروفات مع ممثلي العرض هي كما العزف على حياة مقهورة، فهم يعيشون يومياً بانتماء وعطاء خلاق مع الواقع، يذهبون مع النص بعيداً حيث يحفرون في مجهولٍ دامٍ».
مبيناً «لن أنسى متعة العزف المشترك مع نجوم العرض مناضل دَاوُد وآلاء نجم وأمين مقداد في تناوب حسي رهيف، تؤسس لعزف مسرحي شديد الاختلاف من دون الوقوع في المعمول عليه».
كاشفاً عن أنَّ «في (حنين حار) كأننا أقسمنا على المشي فوق أرض الحرائق لاصطياد ذلك النسيج الروحي المنذور للتعرية، والانشداد لرسوخ تلك الصدور العارية المهرولة نحو جمرة النور الحر».
واختتم الأسدي حديثه بالقول: إنَّ «الممثلين في (حنين حار) من طينة واحدة، فمٌ واحد، جسدٌ واحد، متوحدون في الاختلاف وفِي الحنو، في الاشتباك وفِي نار النزاعات الفتاكة».
 
عذابات العراق
براعة الفنان الكبير الدكتور مناضل داود أعطت العرض طعماً آخر، وهو يتقمصُ دوره بحرفيَّة ممثلٍ مقتدرٍ ومخرجٍ قدير، إذ استطاع أنْ يصهر تلك المقومات في إسناد دوره في المسرحيَّة التي تحدث عنها قائلاً: «(حنين حار) تختزل أوجاع وآلام وعذابات تاريخ العراق المعاصر، ذلك التاريخ الممتد منذ زمن الطاغية الى يومنا هذا، عبر بيتٍ صغير يعيش فيه فنانٌ تشكيلي، مناضل داود (جبار)، وآلاء نجم (شفيقة) المطربة وابن أختها أمين مقداد (عامر) ليتصاعدوا بالأحداث الى ذروتها».
لافتاً الى أنَّ «صراع الزوج والزوجة يستعرض آلام العراقيين تحت وطأة النظام الدكتاتوري وجحيم سجونه الطائفيَّة والإرهاب، وصولاً الى عصابات «داعش» الإرهابيَّة».
معرجاً على أنَّ «العرض عبارة عن صرخة رومانسيَّة عذبة من أجل الحريَّة والانعتاق من التسلط».
الموسيقى لغة عالية تواشجت مع الحوارات الملتهبة بالأحداث، كانت نغمات العازف أمين مقداد تعبِّرُ عما يختلجُ بالحوار من حزنٍ وألم، موسيقى صيغتْ بروح صافية أعطت مساحة جماليَّة هائلة.
 
ورشة عمل مكثفة
مقداد أفصح لنا عن ذلك الشعورالجميل قائلاً: «كل ما أستطيع قوله انَّ العمل مع مخرج مثل جواد الأسدي ورشة عمل مكثفة وغزيرة، يستفز فيها الأسدي الكثير من إمكانيات الإنسان الحسيَّة الجماليَّة، عارضاً عليه طبقاً كبيراً من وسائل التعبير عن الروح».
مبيناً «بعد مشاركتي في مسرحية (تقاسيم على الحياة) للأسدي أحسست أنَّ فضاءات المسرحيَّة تحررني من الكثير من الألم، وأنقذت الكثير من روحي التي خنقها ذلك الدخان الأسود».
مشدداً على أنَّ «(حنين حار) جاءت لتوقد مصباحاً آخر في عتمتي، لأفهم أكثر من أنا كإنسان، ولا أزال أرى نفسي مشاهداً متمتعاً بلذة كل طبق من وليمة الجمال تلك مع خالتي (شفيقة) المطربة العظيمة وأستاذ جبار جمعة رسامي المفضل».
 
تجسيد للحياة
وبروح محبة وصادقة، صدح المخرج رعد مشتت قائلاً عن العرض: «العرض جسَّدَ مفاصل الحياة كما هي لينة، بارعة في الإغراء، غضّة بالسحر، وحَريةٌ بالأحلام. وهي كذلك سؤال المعنى، وهو قيمتها البيّنة أمام مجانية الموت، المتجول المتبختر الذي يخطف ما يشاء حينما يشاء موتاً لحظة، وقتلاً في الغالب».
مضيفا «أمام تلك الثنائيَّة وذلك الارتباك، تعتلي الفنانة آلاء نجم وهي الممثلة السينمائية أولاً، وسليلة جليلة للتراث المعرفي والتعليمي العراقي المُعتبر، منصة المسرح مع قامة عالية من صوره، الممثل الفنان مناضل داود الذي يتلبس الشخصيَّة كمن يرتدي معطفاً أو يخلعه، هكذا ببساطة رفيعة، إذ تنفذ أدواته كمُمثل فريد إلى روح الشخصية التي يجسد، لا ليمثلها بل ليصيرها، وهي عملية شاقّة ومضنية مع الممثل العراقي المُقيد بألف صورة محنطة ومعتادة تشبه اعتياد التنفس قرب إطار يحترق».
 
مختبر التعبير والمعاني
مختتماً بالقول: إنَّ «هذا غير كافٍ في العمل مع جواد الأسدي، إذ من هنا تبدأ صناعة العرض المسرحي لا قبلها، فاشتغال جواد يبدأ حقاً بعد أنْ تنتهي البروفة، ذلك المختبر المعني بالتعبير والمعاني، ليحلّق بعد ذلك التعب لتشكيل بنائه الجمالي الإبداعي الهندسي الصارم، الذي يحيل تلك المنصة إلى دهشة بصريَّة عبر (ميزانسين) بارع في مخيال فريد للسينوغرافيا، وفي توظيف جمالي للنور كما لو كان رساماً بارعاً، وفي الأخير لا يسعني القول سوى أنَّ (حنين حار) عملٌ رصينٌ مع ممثلين كبار وجرحى بألم البلاد».