الطبيعة بصفتها هويَّة ثقافيَّة في {مسيو داك}

ثقافة 2020/02/17
...

علوان السلمان
 
النص السردي نسج فكري يقوم على التحليل المجتمعي وتصوير أزمة الإنسان وطموحاته متكئا على إشارتين فنيتين حددهما موكارفسكي هما: الإشارة الجمالية المستفزة للذاكرة، والإشارة الإيصالية. وباستحضار النص السردي (مسيو داك) الذي نسجت عوالمه خيالات منتجه نزار عبد الستار الذي تتناوبه شخصيتان مركزيتان؛ (زياد) الذي شكل فعل السرد عبر علاقة عاطفية مشاركة لـ (ربى) الفعل المحرك بديناميته وفكره المنتج لعوالم السرد، إذ يواجهان حشرةmevia  مدافعين عن شجرة الكرز.
وهذا يعني أن الرواية تترصد الإنسان والطبيعة والهاجس المنبعث تجاه عوالم التحضر والمدنية، وأسهمت دار نوفل في نشرها وانتشارها /2020، لتجاوزها شكلا ومبنى باهتمامها بالطبيعة وموجوداته، بصفتها هوية ثقافية مستمدة من البعد التاريخي ووجودها المكاني الفاعل أثرا وتأثيرا، فضلا عن أنها تجسيد لرؤية فكرية عميقة مجتمعيا تكشف عن وعي مكتنز في ذاكرة المنتج (السارد) الناسج للأحداث والمحرك للشخوص الواعية لذاتها والمعايشة لأحداثها بحكم اتساع رؤاه الذاكراتية المقترنة بطبيعة الوجود الجاذب، ملتقطا ومسجلا  لحظات الوجع الإنساني الهارب من واقع مأزوم، مكتظ بالقلق، بمزجه بين البنية الفنية والمضمونية بأفق معرفي مزدحم بالأسئلة المعبرة عن المقاصد النصية، فيطرح اشكاليات متعددة على مستويات متفاوتة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، مع هيمنة ضمير المتكلم على امتداد الجسد السردي، الذي يقوم على جدلية الهوية السردية والهوية الذاتية، على اعتبار أن الشخصية تتعامل مع طرفين مترابطين هما: الخارج والداخل.
الهوية السردية = الخارج
الهوية الذاتية = الداخل
(فتحت ذراعي قائلا: مهما يكن الأمر خذي الخمسة آلاف دولار وقولي لهم إنّ «زياد» رفض العرض وسافر.
تصلبت ملامحها: ما لا تعرفه أنّ (ربى) عملت مع ريمر مدة خمس سنوات وقد اكتشفت حشرة فتّاكة تشبه كابنودس اللوزيات سمتها mevia نسبة إلى مصارعة كانت تعيش في زمن الامبراطورية الرومانية، وبعد سنة من لقائها بك في بيروت تركت (ربى) شركة ريمر وتخلت عن كل أبحاثها وانتمت إليك.
 لم تنفع كل المحاولات في إقناعها بالعودة، كما رفضت عقدا بثلاثة ملايين دولار لمدة سنتين لقاء إكمال الأبحاث. mevia الآن ظهرت في مزارع الكرز في إيطاليا ولدى ريمر قراءات تتوقع وجودها أيضا في مزارع إسبانيا وألمانيا وفرنسا، هذه الحشرة لا تتأثر بالمبيدات المستعملة مع الحشرات الحفارة الأخرى، وهي فتاكة إلى درجة مرعبة، و (ربى) لم تسلم كل أبحاثها إلى الشركة. تركت mevia وريمر ودومينيك والعالم كله ووقعت في حبك) ص45ـ ص46.
  فالنص يتشكل من مشاهد استباقية واسترجاعية حققت وجودها ذاكرة (ربى) السابحة في يومياتها وتحليلاتها وتداعياتها مع اقتران بالزمن، لأنها بؤرة السرد الذي يقوم على أكثر من مرتكز درامي وثيمة سردية اشتغل عليها المنتج (السارد) وهو يستحضر الأحداث والشخوص التي تتناوب فيها شخصيتان مركزيتان سيطرتا على فضاءات النسج السردي، (زياد) الذي وقع على عاتقه فعل السرد، و(ربى) التي أسهمت في نمو ذلك الفعل وبنيته، وهما يتبنيان يوتوبيا متفردة خلقها لهما فعل العلاقة العاطفية النامية المتجذرة بسنينها، والتي تضطرهما على الهروب من عالم المدنية المأزوم حفاظا على براءة الحب ونقاء الضمير، وابتعادا عن المطاردة لهما عبر شبكة إيطالية تسعى لامتلاك العقول العلمية المنتجة كما في محاولتها الحصول على مبيد حشرة mevia الذي ابتكرته (ربى) عن طريق الترغيب المادي والترهيب الحياتي. هذا يعني أنهما فتحا الأبواب للمنتج (السارد) للدخول في عوالم سيكولوجية التواصل بوصفها خطابا غنيا بالدلالة لتحقيق الاقناع النفسي والانتفاع الفكري. (قلت وأنا أنظر إلى طبقي: في (دورهام) مقهى صغير اسمه first kiss تديره امرأة إيرلندية في السبعين من عمرها، في زاوية منه مقعد دائري، وعلى الحائط غيتار وبجواره لوحة خشبية حفر عليهاif you could really sing. كل مساء كنت أجلس في المقهى لساعة منتظرا أن يأتي أحدهم، وفي يوم ممطر ظهرت فتاة في العشرين، أخذت الغيتار وجلست تغني قصيدة جميلة عن بنت تطلب من الإله أدونيس الفينيقي أن يذهب إلى شاطىء صور ليجمع أصداف الموريكس ويخرج منها صبغة الأرجوان من أجل فستان
 عرسها.
وجدتها تنظر إليّ وملامحها صفراء فأضفت: نحن في فينيقيا يا (ربى)، أرض الأرجوان والحب. تساءلت بنظرات مرتبكة: وماذا بعد؟
ـ أنتِ تريدين شيئا من روح الجبل والأرض، علينا البحث عن خياط يفصل لنا بدلتين أرجوانيتين بدل الملابس الخشنة التي نرتديها في العمل، وأن نجلب شيئا مشابها لجنينة توفيق، هناك لفائف من القطن تأتي بلون أرجواني يستعملها الرياضيون لدعم العضلات والركبة، نجلب منها ونلف بها أعناق أشجار الكرز، وإن كانت mevia شريفة حقا فستحترم اللون الوطني الفينيقي وتستحي من أدونيس وتذهب بعيدا) ص103.
  فالمنتج (السارد) ينقل مشهدا سيميا يصور الموجودات التي تؤثث الواقع من خلال امتلاكه قدرة الحلول في الطبيعة، مع اعتماد عنصر الحركة الذي شكل أحد معطيات المستوى الحسي للغة السارد بتوظيفه الألوانَ (الارجواني الذي هو لون طيفي بين البنفسجي، الدال على الحكمة والمحفز للوصول إلى المثل العليا) وأسطورة (أدونيس) أو (أدون عند اليونانيين) الإله الأكثر أهمية، والذي يعود أصل اسمه إلى اللغة السامية ويعني (السيد)، إنه الإله الذي يموت ويعود إلى الحياة في كل ربيع) بطريقة موحية أسهمت في تطوير البناء الدرامي ونبش الخزانة الفكرية للمستهلك (المتلقي)، فضلا عن توظيفه الحوار بشقيه (الذاتي والموضوعي الذي يغيب فيه صوت السارد العليم ويكشف عن دخيلة الشخصية)، إضافة إلى توظيفه الجزئيات من أجل تطوير الحدث والتركيز على الجوانب المعتمة للانسان، كون النص يعتمد في تكنيكه على بناء الشخصية ذات الطبيعة المركبة في عمقها النفسي، المليئة بطموحاتها الحالمة بتغيير واقعها، مع استطراد مرتبط بالتداعي الذي يوظفه السارد بقصدية ليعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه، إضافة إلى أنه يعكس الاضطراب النفسي من خلال اتّكائه على أساليب تصويرية تكشف عن ذات مأزومة بلغة تعبيرية بعيدة عن الضبابية، مع توظيف الهواجس عبر مشاهد تأملية كاشفة عن المضامين الموحية المكتنزة بخيال محفز لعملية الخلق السردي ـ الوسيلة التعبيرية والدلالة الاجتماعية التي يحققها المنتج (السارد)، كونه يحاول (أن ينشئ من العالم المفروض عليه عالمه الذي يحلم به) على حد تعبير بول إيلوار.
  لقد كانت (مسيو داك) منجزا سرديا يختزل تجربة إنسانية عميقة باعتماد أسلوب الحكي الذاتي والمشهدية السيمية، مع اتّكاء على تقنيات فنية جاذبة (استرجاع واستباق وتذكر واستذكار ومكان بشقيه (مغلق ومفتوح) مع إفادة من تداخل الأزمنة واتخاذ الجملة القصيرة لتوصيل الحدث السابح بمستويين متداخلين ضمن رؤية فنية: أولهما نثري واقعي، وثانيهما شعري بلغته الإيحائية الممزوجة بالرمزي الاسطوري.
 وبذا حقق المنتج (السارد) ذاته ضمن حركة مركبة من الواقع الممزوج بالتخييلي بخلقه نصا مكتظا بالصور الحسية والبصرية الكاشفة عن الترابط الجدلي بين الإنسان والأرض المنتجة للجمال الطبيعي، فقدم نصّا ادهاشيا ابتداءً من العنوان النص الموازي والعلامة السيميولوجية الفاعلة شكلا ودلالة على اثارة وتشويق المستهلك (المتلقي) واستفزاز ذاكرته من خلال الأسئلة التي يثيرها على الصعيدين القرائي والبصري.