منهل عبد الأمير المرشدي
في كل يوم اتوجه به لعملي يكون لي وقفة لا تخلو من المشاعر والارهاصات والخوالج التي تنتابني وانا ارى تلك الشيبة الكريمة للرجل الجميل رغم ما يؤطر محياه من تعب العمر وآهات السنين وهو يضع صينية السميط على رأسه، وصوته ذو الشجن العراقي يرتفع (سميط حار ومكسب) . مشاعر تنتابني لا افلح في وصفها بالضبط فشوارع بغداد كما هي كل شوارع العراق تكتظ بالباعة من كل الأعمار نساء ورجالا شيبا وشبابا واطفالا في مشهد يضع الف علامة استفهام على حال اغنى بلد في العالم ثروات وعقولا وطاقات، نترك الاجابة عليها في خانة كل مسؤول في الدولة ايا كان ومهما كان . اعود لبائع السميط فله ما يميزه عن سواه هيبة ووقارا فضلا عن جمال ملامحه رغم كبر سنه والحزن الذي يؤطر نظرات عينيه . لا ادري لماذا حين اراه تستحضر ذاكرتي كل طيبة ابائنا واهلنا الطيبين ونبلهم وعفتّهم وحيائهم ويعتصر قلبي اسى وحسرة وانا ارى هذه الشيبة الكريمة هنا بين ضجيج السيارات وزحامها ومزاجات ركابها . يعتصر قلبي ألما حين اراه يحمل شيبته وهيبته ووقاره وسنين عمره ليهرول قدر ما يستطيع خلف سيارة اشار له سائقها ان يشتري منه عسى ان يلحق به فيكون بذلك قد باع شيئا من بضاعته التي أحس بها تثقل كاهله وهو يحملها تارة على رأسه واخرى على كتفه الأيسر وحينا على كتفه الأيمن وشهيق النفس المقطوع يخالج صوته (سميط حار السميط اربعة بألف السميط) . اشتري منه يوميا ليس لرغبتي او حبي بالسميط بل لأني اشعر بان النبلاء الشرفاء من امثاله أقل ما نقدم لهم هو ان نشتري منهم لحفظ ما نستطيع ان نحفظ من عزة نفس وكرامة لهم بعدما افقدهم الوطن المنهوب النازف الجريح الكثير منها . مرة توقفت عنده لأشتري منه فأعطيته مبلغ خمسة الاف دينار فأراد ان يرجع لي الباقي لكنه لم يجد في جيبه ما يرجعه لي فقلت له اتركه في ما بعد وانطلقت بسيارتي مع بقية السيارات واذا به يركض خلفي لاهثا متعثرا متصبب العرق من جبينه الطاهر حتى لحق بي ليرمي الخمسة الاف في حضني وهو يصيح (بعدين بعدين) ابتعد عني وابتعدت عنه لكنه استوطن ذاكرتي وتربع على عرش قلبي واستنزف دمع عيني فوجدتني صغيرا في حضرته ذليلا في عزته فقيرا في غناه مضمحلا في عنفوانه خاضعا بين كبرياء ذاته الأبية . لقد دعاني ذلك المشهد لأتلهف لرؤيته في اليوم الثاني إذ ادمنت على شراء السميط بينما يقابلني هو باتسامة القداسة الأبوية ودعائه الف رحمة على والديك أحس بها تنزل كنسيم من ريح الجنة على قبر امي وأبي. بائع السميط بكبريائه وعفته يذكرني بذلة اللاهثين وراء المال الحرام أما قداسة شرفه وحيائه فانها تضع بين عيني دعارة الفاسدين والمفسدين الذين نهبوا ثروات البلاد والعباد. اخيرا وليس اخرا اقول لصديقي بائع السميط الذي لا اعرف اسمه: دمت شريفا عفيفا تقيا ابيا سيدا على نفسك وعيالك وعلينا نحن الباحثين عن امثالك من النبلاء واسمح لي ان انحني لك اجلالا واكبارا لاهديك قبلة على جبينك وأنامل يديك وقدميك فأنت العراق..