التفسير

ثقافة 2020/02/19
...

محمد صابر عبيد
 
((ما لا يفسرُ بالوسائل المتوفرة لا يُفسّر مطلقاً))
تقع فعالية التفسير بوصفها إحدى الآليّات المعروفة في قراءة النصوص والظواهر بين منطقة الشرح الأدنى من منطقة التفسير ومنطقة التحليل الأعلى قليلا من منطقة التفسير، فهي تتجاوز منطقة الشرح التقليدي المباشر للنصوص لتستخدم آليّات جديدة لها القدرة على التفسير بدرجة أوسع وأعمق من مجرّد الشرح البسيط للمفردات بدلالاتها العامة.
 ولا تصل إلى مرحلة التحليل، إذ تخترق آليّاتها بواطن النصوص والظواهر وتتدخّل في توجيه دلالاتها على وفق رؤية المُحلّل.
إنّ من أبرز الوسائل التي تقوم عليها فعاليّة التفسير هي "القرينة" أو "السند" أو "المرجع" التي لا يمكن من دونها تحقيق نتائج مهمّة تذكر في إطار هذه الفعاليّة، فضلاً على وسيلة التأهيل التي يجب أن يتمتّع فيها المفسّر ليكون متخصّصاً في ممارستها على النحو الذي يقنع مجتمع التلقّي بما يأتي من تفسير، بمعنى أنّ المفسّر هو الحامل الفعليّ الأساس للوسائل المتوفّرة إذ يستطيع القيام بمهمّته على النحو المطلوب بلا أخطاء أو مزالق قد يقع فيها بسبب عدم توفّر الوسائل، ومن دون ذلك لا يوجد تفسير، وقد تهبط الفعاليّة إلى ما دون ذلك حيث منطقة الشرح التي لا تحتاج إلى وسائل
 تفسيريّة.
تسهم الوسائل إذن في الارتفاع بالفعاليّة من مستوى الشرح إلى مستوى التفسير بدلالة توفّر الوسائل القادرة على تزويد الفعاليّة بالممكنات التي تُيسّر لها فعل التفسير، وهي درجة تأهيل المفسّر وكفاءته المُتّفق عليها، والظرف المكاني والزمني القابل للتفسير، وحضور جملة قرائن وأسانيد ينطلق منها المفسِّر لضبط حركة التفسير ضمن سياقات عالية الدقّة لا تسمح بالشطط والاجتهاد، ومن ثمّ الإيمان بالنصوص التي يتوجّه نحو تفسيرها ضمن مقاصد وأهداف ونيّات مسبقة مُتّفَقٌ عليها، للوصول إلى أعلى منطقة التفسير في ظلّ قراءة تفسيريّة تجعل النصوص أكثر تقبّلاً وفهماً وتداولاً.
التفسير إذن يعتمد اعتماداً كليّاً على الوسائل المتوفّرة والمتاحة إذ هي الأدوات التي يكون بوسعها العمل على النصوص وتفسير محتوياتها، وحين يفتقد المفسِّر أدواته تكفّ قدرته عن التفسير إذ يفقد القيمة الأدائيّة الفاعلة في عملية التفسير، لكنّ السؤال الذي يمكن مناقشته هنا يتعلّق بمفهوم الوسائل المتوفّرة ونوعها وقيمتها ودرجة إسهامها في التفسير، بمعنى أنّ الوسائل المتوفّرة هي الرصيد المرجعيّ المنهجيّ الوحيد لإنجاز عملية التفسير على وفق أسس علميّة تبرّرها الوسائل المتوفّرة، وتوفّرُ الوسائل يدلّ على أنّه لا توجد سواها وهي الكفيلة بالاستخدام كي تتمّ فعاليّة التفسير على أكمل وجه، من هنا بوسعنا الحديث عن وجود أكثر من تفسير لنصوص بعينها، وكلّ تفسير قد يختلف عن سواه استناداً لقوّة الوسائل المعتمدة في التفسير وكفاءتها وحيويتها وكمال
 أدواتها.
لا تتوقّف الوسائل المعتمدة في عملية التفسير عند الأدوات التقليديّة المعروفة في الدخول إلى جوّ النصّ وتفسير مكوّناته وممكناته، بل ينبغي أن تشمل وسائل أخرى متطوّرة باستمرار تجعل من عملية التفسير فعاليّة ذات طاقة إنتاجيّة عالية في كلّ جولة تفسيريّة، وينبغي على هذه الوسائل أن تكون متوفّرة وكفوءة من حيث قدراتها وإمكاناتها وفعالياتها العاملة في الميدان، وهي على هذا النحو وسائل إجرائية مُعدّة أساساً للعمل وليست نظرية تقترح حلولاً وتوصي بفرضيات ما زالت قيد البرهنة، بل هي وسائل مُجرّبة وفاعلة وقادرة على الإنتاج الصحيح في الظروف والحالات المناسبة.يعتمد التفسير على المنهج إذ لا يمكن إنجاز تفسير لا يقوم على رؤية منهجية معروفة وذات تأثير عمليّ ونظريّ في ميدان العمل التفسيريّ، فالمنهج هو المساحة الآليّة الضابطة والضامنة لصحّة مجريات الفعل التفسيريّ في حقل العمل، وهو الطريق المزدانة بالنور والضوء الكافي لرؤية الأشياء بدقّة ووضوح بحيث لا تحتمل أيّ غموض قد يسيء لفعل
 التفسير.
ولا بدّ للتفسير القائم على منهج من أسلوب كفوء يجعل العمل التفسيريّ عملاً علمياً له خصوصيته الأسلوبيّة والفكريّة والأدائيّة، ومن دون حضور الأسلوب لا يمكن قطعاً للتفسير -مهما بلغ من صحّة- الوصول إلى منطقة التلقّي على النحو المطلوب والمؤثّر، فالأسلوب هو نقطة الجمع الصحيحة بين طرفَي التفسير "المُفسِّر والمُفسَّر له" داخل رؤية مشتركة ضامنة للتواصل والتفاعل بينهما، ولاسيّما حين يكون المفسِّر مضطلعاً بمهمّة التفسير ضمن حالة تخصصيّة عالية توفّر ثقة المفسَّر له في أعلى درجة من درجات القبول والتفاعل
 والقناعة.
التفسير الذي لا ينهض على وجود قرينة تبرّر فعالية التفسير وأداءه الأسلوبيّ لا يستطيع أن يقيم الحجّة على فلسفته التفسيريّة مطلقاً، فالقرينة ضمان معرفيّ أكيد يسهّل للمفسِّر السير في طريق مناسبة غير محفوفة بالمخاطر توفّر له فضاءً أوسع للقراءة وابتكار سبل التفسير، ولا تزجّه في دائرة الاحتمالات التي قد لا تقود إلى تفسيرات صحيحة وتسهم في إفساد الحالة والإساءة إلى مفهوم التفسير أصلاً، وهو ما تخضع له النصوص الدينيّة على نحوٍ أدقّ لأنّها تبقى مشدودة إلى المرجع "القرينة/السند" كي تحصل على الصدق التفسيريّ المطلوب، في حين يتجاوز العمل على النصوص الأدبيّة طاقة التفسير نحو طاقة التحليل التي تقوم على وجهة نظر المُحلِّل في قراءة
 النصوص.
التحليل النصّيّ الأدبيّ يتحرّك نقديّاً فيما وراء أفق التفسير لأنّ النصّ الأدبيّ لا يكتفي بما تقدّمه آليّات التفسير من ممكنات وفعاليات ونتائج، لذا تنتقل الفعالية النقدية نحو درجة أعلى في سلّم النقد والقراءة كي تتعامل مع الحركية الفنية الخاصة في النصّ الأدبيّ بنجاح، وإذا ما انتقلت هذه الفعاليّة نحو منطقة أعلى في سلّم العمل النقديّ على النص ستصل إلى منطقة التأويل، بوصفها المرحلة النقدية الأعلى والأرقى في فهم النص الأدبيّ بدوائرها كافة. 
وهذا يعني أنّ مرحلة التفسير هي المرحلة الثانية بعد مرحلة الشرح وقبل مرحلتي التحليل والتأويل، وستبقى "القرينة" حاضرة وفاعلة وأكيدة في هذه المراحل كلّها بلا استثناء، مع أنّها في كل مرحلة تعمل عملاً مختلفاً عن المرحلة الأخرى على صعيد الحضور والتأثير والفعل والنتيجة، بما يضع تعريفاً محدداً لكلّ مرحلة يختلف فيه عن المرحلة
 الأخرى.