التخيّل والإبداع

ثقافة 2020/02/21
...

إبراهيم سبتي
 
الإبداع خزين معرفي خافت داخل العقل الباطن الذي يحفزه الشعور بالتميّز لينطلق مترجما إيّاه بنتاج خلاق في أيّ جنس أدبي، فيكون الإبداع طريقا للتواصل المعرفي والتفرد والاختلاف والافصاح عمّا يمور من أفكار ومشاعر وهوس المعرفة والتفرد. الاختلاف هنا معناه التكوين والانجاز المتميز وفك شفرة الكتابة، لذا كان الإبداع مختلفا بين الأدباء باختلاف طريقة التعبير والكتابة،  وبالتالي هو صيرورة الأديب ووجوده الذي جعل منه إنسانا يفكر بطريقة خاصة تختلف عن الناس، ويكتب ما يمليه عليه تفكيره وإحساسه بالأشياء  الكامنة في رأسه، أو التي من حوله، فضلا عن أنه يبتكر ما يخفى أو يغيب عن غيره. لذا  ظل الأدباء المبدعون يشعرون بأنّهم يستطيعون الدخول إلى هذا العالم الفسيح، عالم التفرد والمتعة الفائقة، بعد أن يفعل الإبداع فعلته ويظهر للعلن صار لا بدّ أن يتجنس الأدب ويصير ملزما.
أمّا الفوارق بين الأجناس، فقد  صارت واضحة وجلية، فالشعر يعطي قصدا ولغة و نبضا وحرارة  تختلف عمّا تعطيه القصة القصيرة والرواية والنقد وغيرها، ممّا يجعل كل مصنف يأخذ دورته الحياتية في الابتكار والتطور والريادة. وهذا ما جعل الفنون ترغب بالابتعاد عن بعضها لضرورات التميز والتفرد، فلا يمكن لروائي أن يعترف بتأثير الشعر في نصوصه وكذا القاص في نصه الذي لا يسمح بأيّة تهمة بأنه قد استفاد من الشعر في لغته. والأجناس مجتمعة تعطي مفهوما عامّا لفك شفرة الأدب عموما وهو ما جعل الاختلاف مشروعا وقائما، فضلا عن أن التجنيس بحد ذاته هو لوحة كاملة الألوان والفكرة والمفهوم ولا يمكن أن ينفصل أحدها عن الأخريات. ولأن الأدب مفهوم جمالي يعكس هذا التنوع الفريد الذي يعطيه البقاء والديمومة، فإنّ الفوارق بين الأجناس هي علامة حسنة وذات مفهومات دلالية تمنح الجنس الأدبي تفرده عن الأجناس الأخرى، فالروائي يعطي فضاء الواقع افتراضا واسعا ربما تكمله قصيدة الشاعر، ومن ثم يقوم الناقد بمهمة التحليل لتقريب الذائقة الجمالية لإيصال الرسالة التي أوجدها النص الابداعي. والكاتب يجب أن يحيل تجربته كلها إلى رسائل إنسانية مؤثرة، فمثلا إنّ القصة والرواية كليهما تنتج عنهما شفرة معينة موجهة، فيكون الخيال هو العنصر المهم الذي يصل بالسرد إلى المبتغى ويبث رسائله كل حسب طريقة التوصيل. فكون الكاتب يمتلك خيالا جامحا، فسينجو من التكرار والسذاجة في تناول موضوعاته. 
والخيال لا يأتي مصادفة، إنّما هو وليد موهبة واطلاع مستمر ودؤوب لنتاجات الآخرين التي تنمي بقصد أو من دون قصد لترتقي بالموهبة التي تحتاج إلى رعاية وسقي دائم كالنبتة التي يجب أن ترعى وإلّا أصابها الجفاف. فبالمخيلة الجامحة يكتب السارد نصوصه إضافة إلى ما يلتقطه من مجريات بصرية يومية ستعزز دور المخيلة التي ستكون متحفزة للاستمرار في بناء النص. أمّا الموضوعات والأفكار فتأتي وفق معايير الصنعة وسيطرة الشعور الخفي بإظهارها، والبيئة من أهم عوامل صنع الأفكار والثيمات لأنها الينبوع الذي لا ينضب، فتجعل الكاتب يستمد نصوصه منها وطبعا سيغلفها بالتخيل والتفرد لانجاحها وانتشارها. بالتالي إن كل الكتابات والابداعات هي وليدة المخيال والواقع معا. وهذا ما قرأناه في روايات وقصص الأولين وقصائدهم المدهشة التي وضعتنا أمام مواجهة مع بيئات لم نكن نعرفها لولا جموح القراءة وهديرها، فنجيب محفوظ صوّر لنا البيئة المصرية الشعبية، وفيكتور هوجو صور لنا بيئة لم نسمع عنها، والسياب صور لنا الغربة والألم، وغيرهم منْ صوّر الخسارات والمكابدات والمواجع وأبحر في دهاليز وحبائل المجتمع. هذا هو تصور الإبداع حين ينجح الكاتب في استبطان دواخله فيكون أكثر صدقا  وهوسا طالما يجد من يقرأ ويصنف ويحلل.