من نسل ((أنانا))، شهقة (كي)، من سحر وغموض ومعرفة (أنكي)، من تجليات ومخاطرة عقل (سومر) و (أكد)، إبداع (أشور) و (بابل)، من كرم وصلب (تموز)، حكمة (أتونا بشتم)، من تحضّر (سدوري) وصحبة (أنكيدو) من شجاعة (مردوخ)، عناد (كلكامش)، من (دجلة) الخير وعذوبة (الفرات) من قمر الضرورة ورحم اللاصدفة، من بيضة الفطرة يولد ويتشكّل هذا اللاعب يوسف...
بنجيمات الفرح يستحمُّ، وبأجراس اللعب واللهو البريء يتدثّر.
ينطُّ فوق الكرسي يصرخُ بالصوت العالي:
- ((يا مطحنتي، يا مطحنتي / هاكم اسمي / اسمي يوسف / اسمي الطحان يوسف)..
- يمثل، ثمّ بشعاع وبماء القلم، بالجهد المقدّس وبتراب التعب والسهر والمجاهدة، بطين المجالدة والمران والتمثل ينحت شخصية الفنان الساحر، عارفا، باحثا، كاشفا، مساهما، مشاركا فاعلا، ومؤثرا حتى جن، جن الفتى، جن الطحان (يوسف)، صرخوا به أن أعقل، لكنه يرفض العقل وينتمي الى عقل العقل، يصيّر سطح البيت، الدروب، الساحات، المدرسة، يصيّر الخان مسرحا، يصيّر دكّة بيتهم في محلة (خضر الياس) منصة مسرح، تصير الدنيا كل الدنيا ملعبا ومسرحا ... ويجن ...
- يجن الطحان يوسف، ومن أين له أن يعقل، أن يهادن، وكل ما يكوّن بصرياته اليومية يزيّن له تلك اللوثة الضوء، وذلك الجنون العسل، المسرح يدفعه اليه دفعا، يحرّضه ويغريه على الالتصاق بألوانه وعوالمه الساحرة، آلام شعبه، هموم وطنه، أمته والعالم، معادن صحبته الاصيلة التي تعلّق شريط حلمه الملوّن بأقواس تمنياتهم القزحية، وكانت احلامهم شاهقة القمم وكأنّها - لفرط صعوبتها واستحالة تحقيق ولو صفحة من سفرها المجيد تبدو- مجهولة وعصية.
- لكنهم فتية آمنوا بقلوبهم الخضراء وعقولهم المشرقة ... عضّوا على تلك الاهداف النبيلة واهتدوا، فكانوا لها، وكان لها.
- لم يشغل الطحان يوسف دبق
الدنيا ولمعانها الكاذب، ترفها ولذائذها، مجدها الزائل، ومغنمها الآني، بل كان خفوق جناحه يضرب همة واصرارا صوب سماوات أخرى، يفتش عن قيمة عليا، وذكر مدى الازمان برغم التجاهل والتناسي يبقى، عن فكرة أسمى، ترسم للاوطان للانسان دنيا، بها يعيش كريما، بها يحيا...
- بأفكاره، بكائناته وعباراته، بملاحته وقفشاته كم يدوّخنا متعة هذا الطحان يوسف، كم يسكرنا فائدة هذا العراقي البغدادي الكرخي الاصيل..
- كم يضحكنا حدَّ البكاء، وكم يبكينا حدَّ الضحك ...
- كم يسعدنا هذا المعلّم، الأسطة، المبدع، الوطني الشعبي..
- البسيط والغني الملتزم، وكم يشوقنا بحكايته الاثيرة مع المسرح، الحكاية التي كانت هي البداية، والتي ظلت وستظل مع تقادم الازمان بداية...
- حكاية الطحان يوسف الذي
يتنكّب مطحنته، ويروح يتجول بها في قلب وشرايين وأوردة الوطن، أزقته،
دروبه، حاراته ومحاله، يظل يدور بها ويدوّرها صورا منتقاة من الواقع، لا يعيدها ليعبدها، ليعكسها، لا ليحنّطها هي هي فوق خشبة المعنى... انما محرّكا نظرته الذكية الماهرة، يرمي فضة الاسئلة،
يرمي بذور التحريض والغضب والفعل المثوّر فوق هذا المسرح أو ذاك، في هذه الصحيفة وذاك المطبوع، في احتدام هذه الندوة أو في احتفال ذيّاك المهرجان،
يصوغ من ملح ساعاته وشهوره، من سنواته الطافحة بالخصب، من راحته، من احتجاج ضغط دمه، يصوغ من ضجيج حياته فعلا ناريا... يشحن صرخة الحقيقة.
- صياد ماهر للفكرة هذا الطحان يوسف، بارع في مغازلتها، تدويرها واحيائها، شجاع في الدفاع عنها، ذكي في تدويلها بين صفوف الجماهير أينما حطّ وارتحل ...
- يرسم شخوصا طالعة من عباءات
الفقر ليحاورها، يمتحنها، يجادلها، يحاصرها، يدعكها ليثوّر واقعها المعتم، حالما بزرع أوفر غلّة، بواقع آخر، أعز وأجمل وأبهى، أعوام تدور ومطحنة العاني يوسف تدور وتدور وتدور، ما كلت ولا شاخت، بل ظل تعجيلها شابا متحضرا يسافر في الزمان والمكان ثم يعود، ينبت في واقعه الشعبي العراقي، يقضم الرغيف في مأكله، ويحتسي
الشاي المهيل في مقاهيه، يرحل مع شخصياته، حكاياه الشعبية، مع أساطيره، يصوغ منها بصريات واقعية فنتازية، ساحرة وساخرة... مبكية وضاحكة حدّ العلقم ....
- ولم يكتفِ، لم يهدأ، ماكنته تهدر وتستمر تجوب المدن والعواصم، وبما يفيد الانسان، تغتني حقيبته عبر الايام والسنين، ممتشقا فكره النيّر وبديهته الحاضرة لإبداع مدوّنات مسرحية تنتصر للفقراء والمهمّشين، أبطالها طالعون من سديم الحاجة وقاع البساطة، من سوط القهر والاضطهاد ومن ظلم الاستبداد...
- إلّا أنّه ومن خلال عين حلمه البعيد يمنحها حضورا مسرحيا مؤثرا، واضافة لبعدها الجمالي المحلي يطلقها بعدا انسانيا شاملا...
- ينقلها من مألوفية الصورة الى بهاء الطلة وقوة المثال.
- يصيّر لها قدرة التحليق، أن تخاطب
المزاج المحلي، وأن تفوز بنعمة الحياة المسرحية في عدد من فضاءات المسرح العربي.
- في جميع محاوراته وحوارياته المسرحية والسينمائية، الاذاعية والتلفازية، كان العاني ملتحما بصف المواطن والوطن.
- هو ذا الطحان يوسف، هذا الواقعي، الاجتماعي، التسجيلي، الملحمي، ورائد المسرح الشعبي، ابن الشعب الذي صار فنانا، فتوّجه الشعب فنانا له، ينطق بلسانه بطموحاته وأحلامه، ويفوّضه محاميا ينال حقوقه ...
- هو الكاتب المسرحي، الاذاعي والتلفزيوني والسينمائي، هو الممثل والناقد والاداري، هذا الذي حلّق في فضاءات شتى دون أن ينال التعب والوهن من ضربات جناحه العملاق، انما ظل شابا وفتيا.
- شاب أمام صيحة الحق، شاب أمام وقدة الابداع وشهقة الخلق.
- ثقته بإرادة الانسان الجبّار، أمام شفافية علاقته بالناس، معارفه، جيرانه وأسر مهنته... أمام حقيقة هذه الدنيا، أمام كرامة أرضه، أمام الوطني العاشق والمعشوق لمجده،
- أمام الحرية لبني عراقه، لأمته، وسائر الإنسانية....