نصوص ميتة

ثقافة 2020/02/22
...

  حميد المختار 
 
كلّ نص هو استعداد للتضحية، هذه فكرة الفيلسوف الفرنسي (جورج باتاي)، وقد تعلمها الكاتب الفرنسي (بيار ميشون)، الذي يقول: في خيالي، كلّ نص أكتبه يضحّي بموضوعة البطل الذي أحبه كثيراً. وهكذا، فالأبطال، في كثير من الروايات، لا يمكنهم الهرب من الموت، وإذا لم يتوقفوا جسدياً فإنّهم يموتون لأنفسهم على غرار الكثير من الأمثلة في الروايات العالمية التي تتطابق مع هذه المقولة. والحالة هذه فإنّ البطل الذي نفكر فيه، خصوصاً في أزماتنا المجتمعية والسياسية، هذا البطل الذي سيظل حاضراً في ذهن السارد ومسيطراً على الحدث المتوهج والمتصاعد في متن الرواية، كيف ستكون نهايته إنِ استطعنا طبعاً أن نحدد بدايته وتدرّجه وتناميه مع أحداث حياته التي ستشغل معظم ثيمة الرواية؟ أسوق هذا المثال وأسأل كيف لنا أن نكتب عن سيرورة أبطال ما زالوا في ساحات الوغى سواء في المعارك أو ساحات الاحتجاج والحراك المستمر؟ قديماً، وفي مطلع الثمانينيات تحديداً، أُثير سؤال جوهري حول حقيقة أدب الحرب الذي صار يدعو له النظام السابق آنذاك، وفتح خزائن الدولة كلها أمام صخب الإعلام العملاق، وفتح آفاق الكتابة عن الحرب بكل الأجناس الأدبية. لكن السؤال ظل مطروحاً: كيف نكتب عن حالة لم تنتهِ بعد؟ كيف نكتب عن واقع ونحن فيه داخل إطار الصورة؟ وكيف يمكن أن تشعر السمكة بالبحر وهي تغوص فيه؟ ألَا يمكن لها أن تخرج الى الشاطئ لتكتشف سعة وعمق عالمها الذي كانت تعيش فيه؟ ألَا يمكن لنا أن ننتظر نهاية الحرب لنستوعب تجربتها المرة التي أحرقت الحرث والنسل؟ وإن كتبنا عنها فماذا ستكون نهايات هذه النصوص إن لم تظل دائرة في متاهة التعبوية التي أرادها النظام كسياق
 إعلامي كبير يبشّر بالنصر المؤزر على الأعداء؟ وهكذا بدأ أدب الحرب وخرجت روايات وقصص قصيرة، لكنّ عمرها كان قصيراً جداً لأنّها، شاءت أم أبت، دارت في مدار تعبوي وانتهت تماماً. لذا، وبعد هذا الكمّ من السنين
التي مرت على حروب العراق، صدرت أعمال روائية وقصصية تناولت ثيمة الحرب، وكانت بارعة في ذلك لأنّها هضمت التجربة بعد أن عاشتها بكل جوارحها بخوف وترقب وقلق وموت، وهكذا، دائماً، لا يولد النص إلّا من رحم أزمة، ولن يخرج الّا بعد مرور تلك الأزمة. لكننا إن كتبنا نصاً روائياً أو قصصياً عن حالة لم تنته بعد، ولها أبعادها الوطنية والإقليمية وحتى الدولية، ولا نعرف نهاياتها القريبة أو البعيدة، سيكون نصاً متهافتا هشاً وضعيفاً وغير قادر على الخروج من تعبئة أخرى. لا نريد لنصوصنا أن تولد ميتة أو تعيش لكنها ستموت كدورة حياة دودة القز، إنّه نص فقاعة لا يضيء
إلّا موته.