جواد علي كسّار
خلالَ اتصالٍ هاتفي مع صديقٍ من هولندا رغب أن يكتب للصباح، اقترحتُ عليه أن يركز على أمرين في التجربة الهولندية، الأول التقدّم المذهل لهذا البلد في الزراعة وإنتاج الزهور والمحصولات الغذائية، والآخر معرفي، إذ لا يقلّ الجانب المعرفي ألقاً
عن المعجزة الزراعية.
كنتُ أقصد بالجانب المعرفي جامعة لايدن تحديداً، هذا الصرح العلمي الذي تأسّس عام 1575م، ولا يزال يواصل نشاطه لليوم من خلال (60) كلية جامعية، وأكثر من (50) قسماً، تضمّ ما يفوق (40) معهداً بحثياً وطنياً ودولياً؛ والسؤال: لماذا أفِلت جامعات لنا ورثناها من أيامنا الداثرة، في الكوفة والبصرة وبغداد، ولم يبق لنا غير أسمائها والطابوق التأريخي الأصفر، وألواح معلقة عليها أغلب أيام السنة، قد خُطّ عليها:
«مغلق لأجل التعمير»؟!
نقرأ في تأريخ جامعة مدينة لايدن الهولندية، أنها كانت مناراً معرفياً استقطب باكراً عدداً كبيراً من المستشرقين الأوربيين، وأن أول كرسيّ للدراسات العربية أُسّس عام 1613م، وهي تضمّ مجموعة نادرة من أقدم المخطوطات العربية وأهمّها، صدر عنها مراراً أكثر من عمل معجميّ، يحصي تلك المخطوطات ويفهرسها. من خلال التجربة الشخصية، كان يستثيرني أن أجد أن بعض أبرز مراجعنا في السيرة والتأريخ والسياسة والأدب، بل حتى الفقه والحديث، نُشرت استناداً إلى مخطوطات جامعة لايدن، كما وقع ذلك مباشرة بدءاً من تأريخ «الطبري» إلى «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، وما بينهما من عشرات المراجع والكتب، التي ما كان لها أن ترى النور لولا ذلك الخزين المتراكم
من المخطوطات.
الحقيقة أن المخطوطات العربية في هولندا وغيرها، لا تمثل سوى واحدٍ من نشاط معرفي متعدّد الوجوه، نحتاج أن ينهض به أبناء الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، لنستفيد منه في بلادنا. لقد شهدنا محاولات ريادية تأسيسية لعقول عاشت هناك، ولم تُضع الفرصة بالتافه، بل اغتنمت لحظات وجودها وأنفقتها في النافع المفيد، كما فعل الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، الذي حوّل السنوات الأربع لوجوده في باريس إلى أربعة كتب عن الغرب؛ اثنان تأليفا واثنان ترجمة.
من الحلقات المعاصرة الجذّابة في هذا الجهد، كتاب مختار المسلاتي «أمريكا كما رأيتها» الذي أصدره عام 1986م بمجلد ضخم، لا أذكر أنني قرأتُ كتاباً قرّبني إلى وقائع الحياة الأمريكية ونظمها، كما فعل هذا الكتاب، وصاحبه مشهود له بالجدّ والمثابرة، إذ حصل على درجتي ماجستير من جامعتين مختلفتين في وقت واحد. كذلك ما فعله المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في تحليل الحياة الأمريكية، والكشف عن بطانتها الفلسفية عبر كتابه الشهير «الفردوس الأرضي» بعد تجربة حياة في أمريكا زادت على عشر سنوات.
من التجارب المهمّة التي تحمل وعياً وترتكز إلى معايشة مباشرة وتحليل معرفي، ما قدّمه المفكر الهندي كليم صديقي من أطاريح متميّزة في قراءة الغرب، بعد (35) سنة من الإقامة فيه، والعمل في إعلامه ومؤسّساته، ثمّ واصل المحاولة من بعده ظفر الإسلام خان نجل المفكر الهندي وحيد الإسلام خان.
لكن يبقى متميّزاً على هذا الصعيد مشروع الثلاثي هشام شرابي وإدوارد سعيد، والآن وائل حلاق، أعتقد أننا بأمسّ ما نكون حاجة للعودة إليه، في فرصة لاحقة
إن شاء الله العزيز.