هاشم شفيق: الترجمة هي عالم قائم بذاته.. واسع المَدَيات، مترعٌ بالمخلوقات وهي أفق إضافي للشعر
ثقافة
2020/02/26
+A
-A
حاوره في القاهرة / ضياء الأسدي
إشراف: حسن جوان
ليس هناك أجمل من ان تبوح الغابة باللون، حيث تسرج الخضرة شراهة الياسمين في حقل النص المفتوح، عبر قصائد تكتنز لغة شعرية أخاذة، ومفردات تتسور الجمال والأناقة. هذا ما يخامرنا من شعور ونحن نغترف من العيون العذبة للشاعر العراقي هاشم شفيق وهو يحتطب الشعر ويخمده في اتون القصيدة عبر تراجمه الشعرية وفي كتبه النقدية، حيث يحرص على انتقاء نصوص وتجارب عالمية لم يضئها أحد من قبل، ويسعى جاهداً بلغته الرشيقة أن يجعلنا نحلق في علياء فضاءات تلك النصوص.
شفيق المبتلى بالجمال وسماحة الحرف، حاول تأجيج قصائده في بقعة قصيّة من غابة الكلام، قصائده عبارة عن أيقونات ملوّنة بالرغائب والعلامات والصور الموحية، إضافة إلى درجة التنغيم التي تلوح على بنيتها الميلودية التي تستفزّ فيه رونقاً فاتناً وحبكة من النسيج الممتد في أعماق النص على حدّ قوله.
ولكي نتأمل فيوضات شفيق ومحاكاة ما ينهمر منها من ألق العبارات، التقينا الشاعر في حضوره المعتاد الى معرض القاهرة الدولي الاخير للكتاب، وجمعتنا أمسية ثرية المعنى، حينما احتفت به مؤسسة أروقة للنشر والدراسات، منشداً فيها انثيالاته التي لا تطفؤها السنوات، فكان هذا الحوار الخاص بـ "الصباح" :
* هل كان ديوانك ما قبل الأخير "الرجل الرومانسي" محاولة لتكريس الروح التي لا تشيخ؟
- أجل ثمة شيء من هذا في ما تقول، فالروح الهائمة والطائرة والمحلقة في المجهول واللا محسوس هي روح تسبح في أفق لا نهائي، لكن الجسد هو غير ذلك، الجسد المبتلى بالمكان، والحسيّات، والملموسيّات، والمنغمس بنِعم الواقع، هو مُجسّد وشاخص في المرئي، ومهجوس بمتطلبات الآني، واليومي، والراهن المُتعيّن، هذا هو حال الإنسان وفق أفقه الوجودي، وحياته المعاصرة التي يتناهبها الواقعي، والميتافيزيقي، العدم والمُجسد، السديم والواقع، والوهم
والحقيقة.
أشعار ديوان "الرجل الرومانسي" تعود الى عام 2002 فهي مكتوبة في تلك الفترة الزمنية، وكنت على أية حال أبدو شاباً، مقبلاً على تفاصيل الحياة وشؤونها اليومية الجميلة، محتكماً في هاجسي الشعري الى الحسّي والمُدرك والماثل، المرأة تشكل أفقه الكلي تقريباً، في ما عدا قصيدة "بابا أميركا" المكتوبة بعد خمس سنوات من تاريخ قصائد الديوان الذي كان يتحدث عن طبائع المرأة وحيثيّاتها، ومستلزماتها اليومية، ففيه قصائد تبوح بالتفاصيل الدقيقة لها، وعن كل ما يتعلق بالمرأة من شؤون يومية، وهو مقسّم الى ثلاثة أقسام، كل قسم له مراياه، وحكاياه ورؤياه وجمالياته الخاصة، تلك التي تنتسب الى المرأة مقابل الصوت الآخر، صوت الرجل الذي قد يكون الحبيب، أو العاشق، أو المتولّه، الذائب في الألوان العاطفية، والوجدانية التي يخلفها هذا الأفق الرومانتيكي.
وهناك أيضاً حالة التجاسد والتماهي والإندغام بين المرأة والرجل، وبين المرأة وأشيائها من أدوات فن وتجميل، كالمرآة، والأثواب، وأقلام أحمر الشفاه، والمكاحل، والعطور، والأحذية، ينضاف الى ذلك الرؤى والتطلعات والحالات التي تمرّ بها المرأة العاشقة، والمحبوبة، من هَيَمان، وغموض، وتيه وجودي، ينشد التواري في صورة الآخر البعيد، وغير الماثل في صيغة الحاضر .
طبعاً المرأة كذلك تأتي في طابع الحلم والمدى المُتخّيل، والإيهام الذي يمحو المسافة بين المرئي واللامرئي، لتشق المرأة الحجب والأستار وتخترق الأكوان، وتلغي الأزمنة، لتكون تارة إنانا وتارة عشتار وسيدوري.
* اللجوء الى الترجمة هل يُعدّ محاولة للغوص في قيمة ابداعية غائبة عن المشهد المضطرب بالأصوات الشعرية المعاصرة؟
- الترجمة هي عالم قائم بذاته، عالم واسع المَدَيات، مترع بالمخلوقات والموجودات والحَيوات الأخرى، وأيضاً هي عالم مُكمّل وأفق إضافي للشعر، في كل أنسقته وتكاوينه وتعبيراته الفنية، واللغوية، والنغمية، فالترجمة تعني معرفة الآخر، أو التمرئي في صورة الآخر، وتعني التناغم، والتكامل معه، ثمّ الإبحار في عالمه ومداه الإنساني، ففي الترجمة تكون هناك حياة أخرى، أعني عوالم، وتقاليد، وتواريخ، وأزمنة مختلفة، شخصيات، وحكايات، وعادات، وأنماط عيش، وسلوك لدى الآخر، فالآخر هو الوجه الثاني لنا، هو الوجه غير المرئي من الصورة، فالغوص في محيطه وكشف خباياه سيزيدنا معرفة وعِلماً وألقاً ،وسيجعلنا إنسانيين أكثر، ومُحبّين أكثر، ومتسامحين أكثر ومتآخين مع الطبيعة البشرية حيثما
كانت.
وبما أن الترجمة هي كل هذا، تجد من الطبيعي أن تُجدّد الترجمة خطابنا الشعري، وتضيف له الرؤيا، ومنافذ الخيال، وتلوّن عالمنا الشعري، بلون مغاير، وتضفي عليه طابع الحيوية والتحوّل والانتقال، تُخلخل الثابت، وتُعرّي النمطي، والشائع، والمتداول، وتمنح ما نكتب من شعر نكهة جديدة، ونسقاً تعبيرياً مختلفاً، غير ما هو موجود ومتداول لدينا، الترجمة تضعنا أمام الاختلاف، وتدلنا على الخفي، والمستتر، والمجهول، والنائي في عالم الشعر، الترجمة توحي بارتياد آفاق لم تكن تحلم برؤيتها في السابق، لذا بالترجمة ستكتمل الصورة، وينمحي الاغتراب، والتوجس، وتتخفّف العزلة
الآدمية .
لقد ترجمتُ حتى الآن ثمانية كتب شعرية، أغلبها يُترجم للمرة الأولى، مثل الشاعر الإنكليزي اليساري أدريان ميتشيل، وهو من شعراء "البِيْتْ جينيريشن" والرومانية نينا كيسيان، والإنكليزي الويلزي دانييل هوز، إضافة الى ذلك ترجمتُ "مئة قصيدة من الشعر الصيني" والى جانبها "أنطولولجيا شعر الهايكو الياباني" وبالنسبة للشعراء الذين ترجمتهم وكانوا قد سبق ترجَمتهم، فهما اليوناني يانيس ريتسوس ـ قصائد مختارة ـ والبولندي المهم والقريب من ذائقتي وحساسيتي الشعرية وأفقي الفنيتادؤوش روزيفيتش، وهو شاعر يساري، دافع عن القضايا العادلة في حياته، لقد قرأته باكراً في الإنكليزية، وقد شدّني إليه كثيراً ومسّ أشياءَ في أعماقي وحرّك شيئاً ما في دواخلي، حتى سعيتُ بعد ثلاثين عاماً من قراءتي لكتاب "محادثة مع الأمير" الى نقله الى العربية عبر الإنكليزية، وكان قد سبق وترجم له الشاعر القدير هاتف الجنابي مختارات شعرية عن البولندية مباشرة، وهنا ستُظهر الترجمة حساسية كل شاعر، وأدوات كل كاتب، وتقنيات كل مترجم، والحكم هنا سيكون بالتأكيد
للقارئ.
أمّا الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس فقد ترجمه الكثيرون، لقرب مجسّاته ولوامسه ووجدانه من الأمور اليومية، ومن قضايا اليسار، وقرب رؤياه ومخيلته ونهجه الحياتي من الحالة العامة للإنسانية جمعاء، فقصيدته عموماً عامرة بالتفاصيل والاشياء الجوهرية، هذا ناهيك عن سلسلة نضاله الطويل ضد الفاشيست، وطغاة العالم، ومن هنا وجده أراغون الفرنسي وبالماس اليوناني ونيرودا التشيلي خير ممثل للشعر والحياة والنضال، حتى أن نيرودا قد قال عنه حين حصل على جائزة نوبل:" بأن ذلك اليوناني ريتسوس يستحق نوبل أكثر مني" ولذا تنبّه إليه العراقيون في البدء..
*دخلت عالم الرواية بشهية شاعر يحاول تدوين الأمكنة وابتكار شخوص سردية تنتمي الى حقب متباينة، كيف ينقاد الشاعر الى ولوج فراديس الرواية؟
- أجل لقد كتبت الرواية في وقت مبكر، كتبت رواية "بيت تحت السحاب" وهي رواية قصيرة نوعاً ما، في أواسط الثمانينيات، لم يكن أحد من الشعراء قد كتب رواية في ذلك الحين، باستثناء الشاعر سليم بركات، الذي أصدر رواية "فقهاء الظلام" صدرت روايتي عام 1990 في بيروت، ثم بعد مضي قرابة الثلاثين عاماً عدت وكتبت روايتي الثانية "أشهر من شهريار" وقد صدرت في بيروت عام 2012 الرواية الأولى تتحدث عن المنفى، والهجرة التي كانت تسود أوساطنا في ذلك الحين، والثانية هي استيحاء من عوالم بغداد بعد رحيل الطاغية، رواية تبحث في القيعان السفلى لبغداد، أحدهم كتب عنها نقداً في صحيفة "الأخبار" وقال عنها أنها رواية مأساوية، وأبرز شخوصها هو الشاعر عقيل علي، كانت هذه وجهة نظره، ولكن الرواية كانت تبحث في قاع بغداد، كالبتاويين وشارع مقهى المعقدين وشارع أبي نواس حيث نصب شهريار وتبحث عميقاً وعلى نحو تراجيدي خفايا السجون العراقية أبان
الاحتلال.
اما الثالثة الصادرة في بيروت أيضاً وهي "البرج الأحمر" فأبطالها مسيحيون ومسلمون وكرد وعرب وأزيديون، مكانها الأساسي والمركزي هو الموصل، وزمانها فترة السبعينيات من القرن المنصرم، وشخوصها كانوا يتحرّكون ما بين بغداد والموصل ودهوك، ثم ينتشرون في
العالم.
وثمة رواية في الطريق، كتبتها منذ سنوات، ولكني حتى الآن لم أنهها، بسبب مشاغلي الأدبية الأخرى، صرت أأجلها كل عام، فهي طبعاً تحتاج الى كتابة ثانية، كما هي طبيعتي في كتابة الرواية، ومن ثم كتابة ثالثة أخفّ، حيث تخضع فيها الرواية للشد والحذف، وربما الإضافة والتدقيق، كل ذلك يكون من أجل التماسك البنائي وتوضيح المشاهد والشخصيات والأماكن والأزمنة، ثم تطعيمها وترويتها كما هي عادتي، بعناصر التشويق والإثارة، وسقيها بمفردات الحياة العامة بكل تجلياتها وتفاصيلها وتحوّلاتها
اليومية.
* نجد لك بين الفينة والأخرى مقالات نقدية في الصحافة العربية، هل تعدّها محطة استراحة تلوذ بها من قلق الشعر؟
- أنا لست ناقداً محترفاً، بل أمارس الكتابة النقدية لغرض العمل ليس إلا، فالنقد هو عِلْم بحد ذاته وتخصّص، ويحتاج الى تفرّغ، وينبغي على من يمارسه أن يكون مُلمّاً بعلمه، ونظرياته، وكشوفاته الأدبية والنظرية، وفَهمه على مستوى بالغ ورفيع، ومتابعته في كل المدن والعواصم، ولا سيما على مستوى الجامعات في العالم، ومراقبة تطوّره هنا وهناك، ومتابعة ما يستجد في هذا الشأن، من مفاهيم وطروحات وأسئلة جديدة، تقع في الصميم من مهمته الكبرى، ألا وهي ملاحقة المدارس والتيارات والأساليب المستحدثة في هذ الحقل الهام والكبير.
بعض النقاد من الأصدقاء أطلق عليّ صفة الناقد، وهما الناقد الأردني فخري صالح في تقديمه لكتابي الشعري " كتاب الاشياء " والناقد صبحي حديدي في تناوله لأحد كتبي الشعرية، وهناك بعض الصحفيين من الأدباء والشعراء والكتاب الذي يجرون مقابلات صحفية معي، يضعون هذه الصفة لي أحياناً مع غيرها من الصفات الأدبية، بحكم كتابتي ومتابعتي وترجمتي ونقدي للكتب على مدار سنوات طويلة تجاوزت الثلاثة عقود.
* قرأت علينا في أمسية "أروقة للنشر"، خلال أمسية شعرية، صفحات عديدة من ديوانك الجديد "نقد الحب" لقد وضعتنا حقاً أمام تجربة غريبة ومؤثرة، لماذا تشير للحب بأصابع النقد؟
- "نقد الحب" هو آخر إصداراتي الشعرية، وهو الثامن والعشرون في سلسلة دواويني الشعرية، وسيكون من حصّة المجلد الخامس في تراتب شعري الذي سيربو على العشرة مجلدات .
في هذا الديوان ثمة خلاصة لتجارب العاشقين والمُحبين، هو تأسيس آخر للحب من زاوية مختلفة، أكثر شفافية، وأكثر رهافة وشغفاً بالآخر، حين تُحب وتعشق وتقع في الشّهْد، عليك أيضاً أن تتذوق المرّ، وتعاني الأمرّين في الافتداء الحبّي.
نقد الحب هو الفناء في الآخر الحبيب، ونقده يستوجب ذلك من أجل البقاء والتواصل وإدامة معنى الحب، هنا الحب سيكون مضاعفاً وهُوية لنا، وفي النهاية سيكون الهدف النهائي للإنسان على الأرض، ومن هنا ينبغي نقده على الدوام، من أجل عدم دماره وفنائه واختفائه من حياتنا القصيرة، وسوف لن تطول الحياة دون حب، دون الانهمام
بالآخر.