رأيتُ البعض يُقارن بين الفتح التجريبي لجزء من منطقة الخضراء، وانهيار جدار برلين في مثل هذا الوقت تقريباً من عام 1989م. بالنسبة لي شخصياً وضعتني هذه المقارنة أمام واحدة من أكبر تجارب النجاح في العالم؛ تجربة
ألمانيا. قصة ألمانيا معروفة للجميع، سواء ارتبط الأمر بواقعها التاريخي وكيف توحدت، بلوغاً إلى تحوّلها إلى محور قوّة عالمية في الحربين العالميتين الأولى (1914ـ 1918م) والثانية (1939 ـ1945م)
، أو مسارها إلى الرقيّ والتقدّم بعد احتلالها من قبل الحلفاء نهاية الحرب العالمية الثانية، وتوزيع عاصمتها برلين غنيمةً بين القوى المتحالفة، ثمّ ما آل إليه ذلك من تقسيم ألمانيا نفسها إلى دولتين، ورفع الجدار العازل داخل عاصمتها وتحوّلها إلى مدينتين؛ برلين الشرقية وبرلين
الغربية.
الشعب الألماني لم ينكل بعد الدمار والهزيمة ولم يستسلم، بل مضى يتحدّى الهزيمة والدمار وانهيار البنى المدنية والصناعية والعسكرية؛ والأهمّ من ذلك متجاوزاً تقسيم البلد جغرافياً بين أيديولوجيتين رأسمالية واشتراكية، ومعسكرين غربي وشرقي، متخطّياً الجرح العميق الذي أحدثه جدار برلين في شعوره وتكوينه الشخصي والاجتماعي، لكن ليس من خلال البكاء على الأطلال، واجترار الأحزان، وإنشاء قصائد الرثاء، والشعارات الحماسية والاستغراق في الكلام والنقد، وتقريع الذات وما
شابه.
لم يتجاوز الألمان محنتهم بالكلام، بل بالعمل والمثابرة والجدّ، وبالعقلانية والتخطيط الستراتيجي، وبالتدبير والاقتصاد المعيشي، حتى حصد الإنسان الألماني في يومٍ من أيام نهضته في العقدين اللذين تليا هزيمة ألمانيا واحتلالها سنة 1945م؛ حصد معدّلا أعلى نسبة عمل في العالم، يوم صار الألماني يعطي أكثر من سبع ساعات عمل مفيد، من مجموع الساعات الثماني التي يمضيها في العمل، على حين كانت هذه النسبة لا تزيد على النصف ساعة يومياً في الكثير من بلدان عالمنا العربي
والإسلامي. فعل الألماني ذلك دون ضجيج، فانتهى الاقتصاد الألماني اليوم إلى أن يتنافس على المرتبة الثانية مع اليابان، فيتقدّم عليها تارة ويتخلف عنها أخرى. أما العملة الألمانية، فإن بعض الاقتصاديين يذهبون إلى أن "المارك" الألماني (قبل اعتماد اليورو سنة: 2002م) كان أقوى من"الدولار" الأميركي أو"الينّ" الياباني، على الأقلّ من زاوية ثبات القيمة، وهامش التقلبات الضئيل إذا ما قورن بالدولار الأميركي خاصّة.
طريق التقدّم مفتوح للعراقيّ كما هو للألمانيّ وغيره، لأنه طريقٌ معلول أساساً إلى العلم والثروة، والأهمّ من ذلك إلى العقلانية في إدارة الثروة، وتوظيف العلوم، والغرف من تجارب الإنسانية في بلدان العالم المتقدّمة من
حولنا.