وصايا القلب وأسطورة العاشق

ثقافة 2020/02/29
...

ناجح المعموري 
 
الشعر وريث الأسطورة الأولى من بين الأنواع الأدبية المعروفة، وهو الحائز على الفلسفة كذلك، وربما الملاحظة تثير الاستغراب لمن هو بعيد عن حياة الفلاسفة المعروفين في تاريخ الفلسفة العالمية منذ ارسطو وحتى هايدجر، وأغلب الفلاسفة شعراء مما يؤشر علاقة وثيقة، أو جزءا من اهتمام ثقافي ومعرفي، له دور تكميلي.
مثل هذه العلاقة تحتاج إضاءة بسيطة، فالشعر يعني الأسطورة ليس بكليتها، بل عناصرها المكونة لها وهي المجاز/ الرمز ولذا أعتقد أنّ الأسطورة لها حضور في تجارب الشعر بشكل عام ومثل هذا الموقف تكرّس لديّ وأنا أقرأ التجارب الشعرية المتنوعة، حتى تبلور موقف نقدي واضح. لكن هذا يتطلب وفرة ثقافة عميقة بالأساطير والعقائد والطقوس، حتى تمكن المتلقي من فحص النصوص الشعرية والتقاط الأساطير أو عناصرها في النصوص. لذا تعاملت مع الشعر باعتباره الوليد النوعي للأسطورة، وهو الوريث لها كذلك، والحامي الصياني للغة من النثر، ففي الحضارات الشرقية المبكرة كان الشعر، وظل طويلاً، هو المصد لمداهمات النثر للغة، وهذا يعني ضمناً أنّ الشعر هو كلام الكائن البدئي.
كرّس الناقد الأميركي هيرش تأكيد قناعته لرأي كانط حول الطائر الآدمي لأنّه يمثل الطاقة الكبرى في الحياة، ولا يمكن المساس بتلك الطاقة وتحويلها الى آلية دلائلية، يوظفها المتلقي أو القارئ كي يدعم وجهة نظره ويمنحها حضوراً. 
أثار موقف هيرش الفيلسوف جادامير "الذي يرفض المنهجية التاريخية البسيطة في التأويل، ولا بد من فهم التاريخية التي يناصها غادامير العداء، فهي ليست التاريخية الجديدة التي تحتفى بظرفية النص، بل تقصد جادامير الإيمان المطلق بقدرة المؤوّل على الاستغناء عن افتراضاته المسبقة وعن ذاتيته، ليقدم فهماً محايداً علمياً موضوعياً للمعنى كما هو في عقل المؤلف. وينطلق جادامير من قناعة أساسية هي تناهي الكائن البشري وانتماء الحتمي للتاريخ واللغة.
وجدت هذه المقدمة القصيرة ضرورة تفتح نافذة لقراءة نص الشاعرة منتهى عمران التي أقرأ لها أول مرة، ولم أسمع بها من قبل، وهذه هي من عوامل محفزة لي للكتابة عن هذه الشاعرة التي كانت مقتدرة من سردية الحب والعشق الجنوني بين أنثى قدمت توصيفاً عالياً في العشق وخدشت ببساطة معشوقها، لا بل الآخر. ووجدت في هذا النص القصير "وصايا العاشقين" عمقاً في الحوار وسيادة المجاز في تبادل الوصايا والنصائح والمثير أكثر في وصايا منتهى عمران للعاشقين تمجيداً للأنثى وتعظيماً لها، معلنة عن انحياز للعلاقة ذات البعد الزمني، كما يتبدّى في النص. ولأنها "الشاعرة" ذات حس نسوي عال ومعرفة متسامية بالآخر، متباهية به ليس لأنه مكمل لحاجات الجسد الحسية، بل لأنّه مانح المعنى للحياة التي تعيشها، مثلما هي جعلت منه رجلاً عارفاً وخبيراً بالأنثى. لكنها بثت رسالة أكثر رقياً ولا تعرف جوهرها إلّا هي، التي طاوعتها اللغة وذهبت لينة وهي تتكلم حتى تمظهر كلامها عن فوران الجسد مفعلاً بالكلام ومتوتراً بالحب، حيث تحول كلام منتهى الى وصايا للعاشقين.
وهم في شتات بعيد، وأماكن ليست مغذية بالحب، بل واهبة للحسيات والمتع، استطاعت الشاعرة منتهى عمران أن تلتقط تخيّلها العميق عن ثنائية ابتكرتها اللغة بعيداً عن المرجعية والتحققات وصاغت نصاً شعرياً أعتقد أنّه حاز أهم ما في الكتابة الجديدة، اللغة البسيطة السهلة، تعددات المواجهة أمام توصيفات الرسم والتشكيل، وقادت مرويتها من القلب لتبحث بها للقلب، قلب المتلقي العاشق، فكل البشر وسط فضاء العشق، لكن توصيف العلاقة بين الطرفين غير معروف. لكن منتهى عمران نجحت وبمهارة أن تحكي مروياتها الهادئة الشفيفة لتمجد الرجل الموجود في المدن الباردة وقد غادر الطرف الأول/ الأنثى هو ذاهب لمتعة، وهي باقية، حاضرة مثل الأبد، مترقبة وعارفة بما هي سردياته، لذا ذهبت نحو الوصايا، الأنثى تدرك بوعيها العالي وبحسها العميق أن الطرف الآخر، مرتبك، قلق، يفكر إلّا بالفوز وصيد الجسد. لكنها الصوت/ الأنثوي الشفاف الممجد للثنائية، صوت العاشقة غير القادرة على التفريط الذي دونت معه مرويات سكنت ذاكرتها. صوت الأنثى في هذا النص فيه من روح البدئية التي صاغت من مشتبكات الوقائع الممنوحة قوتها من الأسطورة الأولى التي كانت فيها الأنثى عاشقة، هي التي عرفت الجنون وذهبت نحو المجد الذي اقترحته وارتضت مغادرة فردوس الإله، واختارت الهبوط لجنة أفضل من فردوس الإله لأنها متعبة فيها، ما لا تعرفه فردوس السماء.
وصايا منتهى عمران فيها من كلام البدئية الأولى البسيطة، الراجفة والرقيقة، الحساسة، المشبعة بجنون هو العشق آنذاك، لأن الحب المنبثق فجأة بين أنثى الفردوس والعاشق المجنون الذي انهار ولم يستطع مقاومة طاقة الجسد المرسوم اخضرار الفردوس والفواكه، عاف كل أنواعها وهرع نحو فاكهة الأزل.
لأنّ الوصايا حديث، حكاية، اختارت منتهى عمران السرد آلية لنصها المثير والمدهش وسنلاحظ طاقة السرد ونعومته، وليونة التتابع فيه، والانباء بين الوحدات السردية المركزة ذات الفعل السببي والتصاعد الغنائي، وبالضرورة للسرد غنائيته.
وأنتَ تبتسم 
للجميلات 
في طرقات المدن الباردة 
لا تجرب 
أن تضع في جيب قميصك 
نقوداً معدنية 
سيفضحك 
صوت رنينها 
على وقع نبضات قلبي 
الذي حملته معك 
التفاؤل قائم والأمل حاضر، هكذا تبدّت الأنثوية، وهي ترسل خطاباً عبر سرديتها الأولى في نص "وصايا العاشقين" وكأنها تراه أمامها، وقدمت صورته وهي تعرفه جيداً، وفي معرفتها تمجيد خلاق وتقديس مجيد. ووجدت بأنّ صوت الأنثوية متسامٍ متوتر بالعشق والدعوة للانفتاح على اللحظة، والاستمرار بتبادل الشفرات مع الجميلات، والابتسام هو الإشارة الدالة على الجمال الموجود في المدن الباردة. لم تكتف الشاعرة بهذه الوصية، بل استمرت باختيار الوصايا وهي موظفة تنوعات الأدب، الوصايا التي هي من أصول المقدس الأولى الذي لا يقوى على الحضور بمعزل عن الوصايا.
تعرف الآخر مغامراً، متحمساً وهو يرى الجميلات، لذا قالت له وصيتها الثانية: 
لا تجرب 
أن تضع في جيب قميصك 
نقوداً معدنية 
سيفضحك 
صوت رنينها 
على وقع نبضات قلبي 
الذي حملته معك 
تمثلت الراوية بالعاشقة وابدعت ثلاث سرديات شعرية فياضة بالشفافية ومغرقة بجنون العشق وهوس الجنون، حتى حازت راوية السرديات صفة العاشقات كلهن، ليس اللاتي في النص، بل كائنات كينونته الحب. ولأنها ذات تجربة فريدة، جعلتها مطمئنة لا تبخل بوصايا ونصائحها. ويبدو بأن راوية السرديات مرنة، لديها ما مقتنعة به ولا تقدر الأنثى على كبح الفحل عن التظاهر بزوغانه، لذا أرادت له فضاء خاصاً لا يستدعيها، وطلبت منه أن لا يضع نقوداً معدنية، لأن ارتجاف قلبها سيهزها وتحدث الفضيحة. سردية العشاق الموشومين بلحظة البدئية وتوهان العقل في ازدهار الجسد وانبعاثه وسط الفردوس. القلب والعقل يمنحان الجسد طاقة للتوازن والتحكم بالفوران وتحقيق الانضباط حتى يظل جسد الأنثى طاقة التجدد ودوام الحضور بمعنى الحيوية.
ثلاث سرديات لها دلالة، لأن عددها متشارك في صوغ التثليث، وهو الرمز العاني، الدال على الأنثى والمذكر بتغير صورته فقط وربما الشاعرة عارفة بما يعنيه المثلث، لأن نصها مكتوب بسردياته الثلاث عن طرفين، الأنثى والمذكر. وتستمر الراوية ببثها الانساني الجميل والمثير للدهشة وتقدم انموذجاً انسانياً خالداً . 
لا تهدي إحداهن زهرة 
ستشم عطري 
المدفون بين الأصابع 
لا تطل الحديث 
ستذوب الأسماء بين شفتيك 
ويبقى اسمي فقط 
وصورتي في عينيك 
ستُريك كل الوجوه 
وربما تتعثر الجمل 
يلاحظ بأن المشهد السردي في المرويات الثلاث موصوف بدقة، لا بل مرسوم بخبرة محترف، ومشحون باللائق الانساني المعروف والنادر، الذي لا يمل إذا تكرر دائماً.
رسالة منتهى عمران: الحياة يجب أن تعاش ويتعرف عليها من يحبها. لا بدّ من ابتكار طرق تبادل الوصايا والرسائل المتوترة بجنون الحب. الحياة يجب أن تعاش، هذا ما قالته المبدعة سوزان سونتاغ، بمعنى على الكائن أن يسخر عقله ويوظفه بإبداع كي يكتشف ويرى الجديد وسعاداته.
أخيرا حتى هذه اللحظة التي انهيت مقالتي عن "وصايا العاشقين" للشاعرة المجيدة والمبدعة منتهى عمران ما زلت مندهشاً ومرتبكاً لأسباب عديدة أولها أنّ الشاعرة امتلكت طاقة إبداع الوصايا، وثانياً وهو الأهم حازت لغتها وكلامها الذي يسمو بالأفكار المرتبة للشعر المتكتم على ما فيه. الكلام هو الذي يمنح السحرية طاقتها وتجعل من الأنثى رسولة البث والتناغم مع الحب والارتفاع بالعشق لمرتبة التصوف.
منتهى عمران شاعرة وستظل بالذاكرة وشكراً لأنّها وفرت لنا فرصة أن نبتسم ونفرح ونزاول السعادات كلها مع الشعر، وأعني شعرها "وصايا العاشقين".