المحلل السياسي!

الصفحة الاخيرة 2018/12/15
...

 جواد علي كسّار
 
أبدأُ بواقعة أعترف أنني أشرتُ إليها مرّات، لكنها لا تزال تُحافظ على نكهتها، وتحمل معها دلالتها الناتئة على ما أريده. ففي الجزء الثالث من تأريخ المسعودي (ت: 346هـ) المعروف بعنوان: «مروج الذهب ومعادن الجوهر» يقدّم المسعودي حوادث ذات دلالة على غفلة بعض النخب وأخلاق العامة من الناس، منها أن رجلاً بمدينة دار السلام بغداد، رفع قضية إلى بعض الولاة على جارٍ له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه مرجئ قدري، ناصبيّ رافضيّ! فلما قصّه الوالي وطلب منه إيضاحاً أكثر عن عقائد هذا الجار، أجاب الرجل: إنه يبغض معاوية بن الخطّاب، الذي قاتل علي بن العاص، فقال له الوالي، قبل أن يغلق الملف ويرفض السعاية: ما أدري على أيّ شيء أحسدك؛ على علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟! (المسعودي، ج 3، ص 45).
كان من قصد الوالي أن يُشير إلى أن الإرجاء هو نقيض عقدي للقول بالقدر، وأن النصب هو ضدّ كلامي للرفض، على ما تفصّل ذلك كتب المذاهب والفِرق والنحل، وأبرزها «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (ت: 324هـ)، و«الفَرق بين الفِرق» لعبد القاهر البغدادي (ت: 429هـ)، و«الملل والنحل» لأبي الفتح الشهرستاني (ت: 548هـ).
موضع الشاهد أن تحليلاً وصلني على واحد من مجموعات النخبة، وقد لا أبالغ إن قلتُ أن المجموعة تمثل نخبة النخبة، يتطابق في الألفاظ والكلمات مع مثال صاحبنا البغدادي الذي سعى على جاره، متهماً إيّاه بالتزندق، فقد قال صاحبنا في وصف واحدٍ من أبرز قيادات الخطّ الأوّل في البلد، أنه بعثيّ شيوعيّ، قوميّ علمانيّ
، إقطاعيّ متغرّب، شيعيّ إيرانيّ أميركيّ، ولمن لا يصدّق فأني عضو بهذه المجموعة، احتفظ بأسماء جهات الاتصال
، وأجمع في أرشيفي أهمّ ما يُنشر فيها من آراء وأفكار وتوصيفات ومداخلات ونقاشات، وأكرّر مرّة أخرى، أن صاحب النصّ يُصنّف في خانة نخبة
 النخبة!
هذا اللون من التحليل بات يغزو نوافذ غير قليلة من وسائل إعلامنا، ويسجّل لنفسه حضوراً مكثفاً في الفضائيات العراقية، وهو يستسهل اتهام الشخص الواحد بالتهمة وضدّها، ويرميه بالوصف وما يناقضه، في مهرجانات دعائية مفتوحة نشاهدها عبر مختلف الفضائيات وبقية وسائل الإعلام، تحت عنوان «التحليل السياسي» ووسط ادّعاءات أصحابها وتلفعهم بأوصاف من قبيل «المحلل السياسي» و«الخبير الستراتيجي» و«الباحث في الشؤون...» و«عضو مركز...» وهكذا إلى بقية الادّعاءات الزائفة!
غالباً ما يستعين هؤلاء بالصوت العالي والصراخ، وحركات جسد استعراضية مبتذلة، وشائعات وأقاويل تغيب عنها لغة الأرقام، ومنهجية التحليل العميق والرؤية الجامعة؛ والمؤسف أن هناك قاعدة اجتماعية تتلقى هذه المدّعيات 
بالقبول!