في رواية «الوزر المالح» لمجدي دعيبس

ثقافة 2020/02/29
...

د. نجم عبدالله كاظم
 
 ( 1 )
حين تأتي رواية الأردني مجدي دعيبس “الوزر المالح”- بيروت، 2018- وهي تستحضر حقبة تاريخية بعينها، فإنها إنما تريد أن تعبّر عن جانب من الحاضر، وتحديداً كما قد تعبر عن هذا الملاحظة التي تتقدمها، إذ تقول: “رواية عن الحب والحرب.... عاشت شخصياتها وجرت أحداثها في عالم يشبه عالمنا إلى حد بعيد، حتى يكاد يكون هو ذاته”- الرواية، ص5. وهكذا هي لن تعبّر بالضرورة عن إنسان تلك الحقبة التاريخية التي تعود إليها، بل ربما عن إنسان الحاضر، خصوصاً أن الرواية تقّدم مجموعة من الشخصيات، وهي تعيش حالات الحب والحرب. 
    تجري أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى، وانطلاقاً من زاوية طرفين فيها، الإنكليز والعثمانيين، بينما تأتي زاوية أو وجهة نظر طرف ثالث هو العرب، موزّعة ما بين الطرفين، تماماً كما كانوا على أرض الواقع، حين توزعوا بين الجبهتين، مختارين أو مجبرين. وتبدأ الرواية بفصل بعنوان (الجنرال.. اللنبي)، وهو يقدم نفسه إلينا: 
    “اسمي إدموند هنري هاينمان ألن بي. وُلدتُ في الثالث والعشرين من شهر نيسان لعام ألف وثمانمئة وواحد وستين، ودُفنت في كاتدرائية ويستمنستر في الرابع عشر من أيار لعام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين. نعم غبت عن عالم الأحياء منذ زمن. لا أعرف في اي زمن أنتم الآن. ولكن لمن لم يقرأ التاريخ أنا جنرال بريطاني لعبت دوراً بارزاً في هزيمة الأتراك في الحرب العظمى في العقد الثاني من القرن.”- الرواية، ص7.
و(اللنبي) هنا يقدم لنا سرداً لأحداث الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، التي كان هو أحد قادتها من الجانب البريطاني ضد الأتراك، وكيف تسلم القيادة وكيف دعم لورنس والشريف حسين، وضمن ذلك تتسلل آراء قليلة من وجهة نظر (اللنبي) الحقيقي. لكن الخطّ الروائي الذي ينشأ في أجواء الحرب العالمية الأولى التي تقدمها هذه الشخصية، لا يبدأ إلا في الفصل الثاني. ويأتي مقدماً بضمير المتكلم وعلى لسان الضابط التركي (سليم آكرات) في شرقي الأردن، وكما هو عموم الرواية المقدمة بهذا الضمير ولكن على ألسنة شخصيات مختلفة، عربية مثل (الجاويش مصطفى) الذي يعمل تحت أمرة (سليم) والمختار (أنور)؛ والتركية مثل (سليم آكرات)؛ والإنكليزية مثل (الجنرال اللنبي)، لتقدم الرواية عالمها وشخصياتها ومجريات أحداثها من زوايا نظر مختلفة. الرواية، بعبارة أخرى متعددة الرواة ووجهات النظر، وتبعاً لذلك جاءت، في جزء كبير منها، متعددة الأبطال: الضابط التركي (سليم بركات)، والجاويش (مصطفى)، و(مريم) التي ستسلب لب الضابط من أول نظرة، وإلى حد ما (يحيى) أخو (مريم)، وصديقه(عودة) الذي تحبه، لينفرد (سليم) بالبطولة في جزء متأخر منها. 
 
( 2 )
    وإذا لم يكن لمسار الرواية، ولا أقول للرواية، من حاجة سردية لبعض هؤلاء الراوين، مثل (اللنبي)، مما قد يبدو زائداً، فإنه هذا يترسخ، أول وهلة، بما نحسه زيادات أخرى في تفاصيل لا تبدو من حاجة لها، مثل تفاصيل ما يرويه الجنرال، والكثير من وصوفات المكان من قرية ومبنى وبيت، وضمن ذلك، مثلاً، مقر الضابط (بركات) الذي هو دار الحكومة التابع للدولة العثمانية. فوق ذلك نجد شخصية، مثل (سليم) في نهاية اليوم وقبل أن يخلد إلى النوم، يتذكر قريته في (كلِّس) جنوب تركيا، وطفولته، وأجواء الحرب فيها وغير ذلك. ومثل هذا ينسحب على المختار (أنور) وآخرين نغرق أحياناً في بعض تفاصيل شؤونهم. نقول قد يبدو لنا جل هذا زائداً ولا يقدم للرواية شيئاً، قبل أن ينشكف لنا في النتيجة، ما قد يغيب عن أي قارئ مما سنأتي إليه بعد قليل. والحقيقة تكاد كل شخصية تفعل مثل هذا، فتستفيض في الكلام والتأمل واسترجاع ماضيها وذكرياتها، تتيح لنا فهم هذه الشخصية، أو على الأقل تعرّفنا بها، كما هو حال الجنرال (اللنبي)، والضابط (سليم)، والجاوييش (مصطفى)، والمختار (أنور)، وآخرين. فمن الطريف أننا نكتشف، حين ننتهي من الرواية، أن كل هذا الذي بدا زيادات، أو على الأقل إطالات، في الحقيقة أسهم في خلق الأجواء العامة والبيئة الحاضنة للشخصيات والأحداث وتطورها، والتي ما كانت الرواية لتكون مقنعة، بشخصياتها وأحداثها، بدونها. والحقيقة أن مثل هذا، نعني حين يأتي ما قد لا يبدو مقنعاً، ليقنعنا بعد ذلك، يتكرر في الرواية دون أن يبدو متكلّفاً. من ذلك مثلاً يُفاجئ (سليم) المختارَ بأنه يريد أن يعفو (يحيى) من الجندية بحجة إعالة أهله، ولكن المفاجأة تزول بعض الشيء حين ينكشف لنا مع (المختار) أن ذلك مقابل موافقة أهله على تزويج (سليم) ابنتهم (مريم) التي، تخليصاً لأخيها من الجندية والحرب، توافق، مع ميلها المعروف إلى (عودة) صديق أخيها، وفوق هذا أن الكثير سيترتب على ذلك الزواج ليصبّ في تطور مسار الرواية. فيتم الزواج فعلاً، وتلتحق بـ(سليم) زوجة له، مع الرعب الذي ينتابها في ضوء ما هو شائع عن الأتراك من سوء تعاملهم مع العرب، بما في ذلك إساءة الأزواج الأتراك لزوجاتهم العربيات إذ يتعاملون معهن وكأنهن عبدات. لكن القادم يكشف، وتدريجياً، عن أن (سليم) إنسان مسالم وحساس وطيب والأهم يحب (مريم)، وكل ذلك يأتي ليشكل خطّاً موازياً، ولكن على طرف نقيض، لخط الحرب والقسوة.
 
( 3 )
    مع مسار متخيّل خط الرواية، يتجه مسار الواقعة التارخية، الحرب، نحو كفة الغرب، وفي المنطقة نحو الإنكليز، على حساب الترك والدولة العثمانية، فتنتهي بانتصار الحلفاء على الدولة العثمانية، لتنكشف لنا، في ظل ذلك، صورة لـ(سليم) كانت متوارية خلف ارتباطه، كونه تركياً، بالحرب والعنف وسوء معاملة العرب. هذه الصورة الجديدة هي صورة الشجاع والمحب لـ(مريم)، لتستحق شخصيته بذلك أنْ صارت الرواية رواية (سليم ومريم). فلأنه لم يتحمل الهزيمة، وربما أيضاً خوفاً على (مريم) أكثر منه خوفاً على نفسه، من انتقام عرب المنطقة، يخلع (سليم) ملابسه العسكرية ويهرب بـ(مريم) باتجاه الشام فتركيا. وخلال ذلك تنكشف لـ(مريم)، ومن خلالها غالباً لنا، حقيقة شخصيته إنساناً رقيقاً مضحّياً، والأهم محباً لها وحريصاً على ألا يصيبها أي مكروه. وخلال هذه المسيرة وإذ يتناوبان السرد، تنثال المشاعر والأحاسيس، بفعل انفراد كل منهما بالآخر وعزلته عن الآخرين، والصعوبات والأخطار التي يواجهانها معاً، مع تخلل الحب في السلوك والمشاعر على حد سواء، خصوصاً حين يكون كل حرص (سليم) هو أن لا تتأذى (مريم)، وهو ما يتفجر أكثر حين تصاب بالحمى فيرتعب خوفاً عليها، إلى أن يصلا إلى بيتهم في إحدى القرى التركية. وهناك ترى أمه الانكسار والحزن عليه واضحين، ليس نتيجة خسارة الحرب فقط، بل لوصول (مريم) معه مريضة ومحمومة. 
    في نهاية الرواية، وفي ظل كل هذه الأوزار التي تجثم على صدره. ومع نقل (صفية) إشاعة في القرية تقول إن (سليم) فر من الجيش وترك الجنود وحدهم، يأتي الوزر الأثقل حين تموت (مريم) فينهار، ليكتمل الخط الرومانسي الذي هيمن على الرواية في جزئها الأخير، وهو الخط الذي منح الرواية نكهة حلوة ومقنعة، واستطاع الكاتب أن يجعله (حلاوة) الرواية، إذا جاز لنا 
التعبير.