جواد علي كسّار
ليس الأرشيف هو خصلته الوحيدة، وإن كان من جملة خصائصه البارزة، يشهد على ذلك الحجم الضخم من الوثائق التي نشرها متفرّداً، بمجلته «التأريخ والثقافة المعاصرة» إذ اكتملت دورتها في (24) عدداً وثلاثة ملاحق خاصة، ينوف العدد على الخمسمئة صفحة، قبل أن تتوقف عن الصدور، بعد أن أنهت مهمتها في استفراغ أرشيفه عن الوقائع
والشخصيات.
دفعه ولعه الخاص بالتوثيق إلى إصدار الأوراق الإيرانية في تراث جمال الدين الأفغاني، والعناية بتراث آخرين وذكرياته الممتدّة معهم، كما فعل مع موسى الصدر ونوّاب صفوي ومحمود الطالقاني، وكانت له قصة مع تراث محمد حسين الطباطبائي، حين حرص على جمع محاوراته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان، وبقية رسائله ونقاشاته وما يرتبط بمواقفه العلمية والمعرفية، ومعالجاته لمجموعة مهمّة من الإعضالات في الفكر الفلسفي، لتأتي الحصيلة بما يزيد على خمسة
أجزاء.
لقد ارتبط الوعي العربي بالطباطبائي من خلال المجلدات العشرين لموسوعته التفسيرية: «الميزان في تفسير القرآن» في حين أُغفل أو كاد بقية تراثه الذي يمتدّ على عشرة مجلدات أُخر. وهذا ما دعاني إلى خوض مغامرة بإصدار آثار الطباطبائي من غير «الميزان»، وقد تمّ ذلك فعلاً بإصدار خمسة أجزاء من مشروع الآثار الكاملة، ما كان لها أن ترى النور لولا جهود صاحبنا، الذي حرص على حفظ أوراق الطباطبائي ومراسلاته ومحاوراته، في قصة تستحقّ التفرّد بتوثيقها. حرصاً منه على تجسير العلاقة بين بلده والعالم العربي على أساس المعرفة، أصدر سلسلة من عدّة أجزاء عن الحركات الإسلامية في العالم العربي، ضمّنها تغطية للجوانب الفكرية لبعض الرموز الناشطة، كما فعل مع المفكر الهندي كليم صديقي، والمفكر الفلسطيني فتحي الشقاقي وغيرهما من
الذوات.
إذ اعتنى بجوانب مجهولة أو مقصية أو مهملة من حياة العلماء والساسة ورجال الفكر، فقد عقد مؤتمراً ضخماً عن جمال الدين الأفغاني، أتحفنا فيه عن جوانب مهمّة من فكره المغيّب، وكتب أوراقاً مهمّة عن محمد حسين كاشف الغطاء والكاشاني ومصدق والخوئي وموسى الصدر والطالقاني وبهشتي وخامنئي (مع حفظ الألقاب والتجلة والتقدير للذوات جميعاً) وأعتقد أن في ذاكرته وأرشيفه الكثير عن المرجع كاظم شريعتمداري، لكن غضب السلطة عليه في بلده، حال دون
نشره.
علاقاته منوّعة وممتدّة إلى ساحات كثيرة، فله أصدقاء ومعارف في الساحة المصرية والفلسطينية واللبنانية والشامية والخليجية والعراقية وفي شمال أفريقيا، بالإضافة إلى أوروبا التي مكث فيها طويلاً، عزّزها بلغاته المتنوّعة، فقد أخذ عن أبويه اللغة التركية، ومن بلده الفارسية، وهو يتكلم العربية بطلاقة، وعدداً من اللغات
الأوروبية.
يمكن أن تصفه بمنظومة علاقاته الواسعة المكثّفة، بأنه شخصية عالمية، لكن ليس على طريقة طيب الذكر جيفارا، فلم يكن صاحبنا عالمياً ثورياً بهذا النهج، بل كان داعيةً
عالمياً.
تنجذب إليه حال لقائه، ليس فقط لذاكرته اليقظة، وأحاديثه المحبّبة الحلوة، بل أيضاً لدفئه وتواضعه وتلقائيته رغم أصوله الأرستقراطية.
وقد جرّبتُ ذلك شخصياً من خلال علاقة قريبة معه، عندما عملتُ على مشروع الطباطبائي، فكان وقت اللقاء به يمرّ سريعاً، وهو يتدفق بالحديث عن ذكرياته مع العراقيين والعالم العربي، بلغة عربية سليمة
ومؤدّية.
رحم الله السيد هادي خسروشاهي، الذي إلتقفه الموت بحاضرة قم قبل أيام، لتفقد فيه المعرفة، واحداً من رادتها المتميّزين!