النزولُ إلى «أعالي الفردوس»

الصفحة الاخيرة 2020/03/01
...

 رضا المحمداوي 
من بين عدة أعمال درامية دأبتْ قناة « العراقية» على إعادة عرضها على شاشتها مؤخراً، نتوقفُ عند رباعية « أعالي الفردوس» لمؤلفها  صباح عطوان ومخرجها  نبيل يوسف، وتمثيل بهجت الجبوري، وجواد الشكرجي، وشذى سالم، وهناء محمد، وهدى هادي . ولا بُدَّ من التذكير بأن هذه الرباعية التلفزيونية  قد تمَّ إنتاجها عام 1993 ، وفيها نتلمسُ الاسلوب الجديد الذي دأبَ عليه الكاتب القديرصباح عطوان في كتابتهِ للتلفزيون مع بداية العقد التسعيني ، ولعلَّ ما يُميّزُ تلك الأعمال هو الالتصاق بظواهر المجتمع والاقتراب بل الاشتباك مع حركة ذلك الواقع المُتغير، ونستذكر هنا تمثيلية «العُرف والقانون» ومسلسل «ذئاب الليل» بجزأيهِ الاول والثاني ، وقد انفرد صباح عطوان من خلال تلك الأعمال بمواكبة تطورات وتغيرات المجتمع العراقي الذي عَصَفَتْ به منذ بداية التسعينيات أحداث وظروف وأحوال صعبة تركتْ آثارها واضحةً على إنسان ذلك المجتمع وحركته فيه .
ولا يمكنُ أن نتناول رباعية «أعالي الفردوس» بمعزل عن وحدة المكان التي حدَّدها المخرج منذ اللقطة الاولى للعمل الفني في قلب العاصمة بغداد وفي منطقة شعبية واضحة المعالم ، ويكاد يكون المنزل أو بيت الإيجار العتيق الذي يملكهُ نوّاف (بهجت الجبوري) هو المُحرّك لافعال وأقوال الشخوص التي وجدتْ نفسها مقذوفة ً فيه.
ويظل هذا المكان يمارسُ سطوتَهُ ويُلقي بظلالهِ حتى نهاية الحلقة الأخيرة ، وأحسبُ أنَّ البطولة المطلقة لم تكن للشخوص بل للمكان الدرامي وجغرافيته، 
حتى ان علاقات الشخوص المتداخلة والمتشابكة لمْ تَكُنْ لتمارسَ تأثيرها وقوتها لولا  وجودها في ذلك المكان، ولهذا كنا نرى شاكر
(جواد الشكرجي) و مديحة (هدى هادي)وإنصاف (شذى سالم) وغيرهم من الشخوص وكأنهم يلعبون لعبة المرايا المتقابلة فأنّى اتجَّهَ أحدهم فإنهُ يرى صورتَهُ تزاحمُ صورة الآخر في المرآة وبدوا  لنا محشورين في مكانٍ ضيّقٍ لايسعهم جميعاً. 
جهدتْ رباعية» أعالي الفردوس» نفسها في إبقاء لعبة الحضور والغياب في علاقات الشخوص متضادةً ومتناقضة ، ففي الوقت الذي تغيبُ فيه الشخوص مثل (فاطمة)زوجة (شاكر) لكنها تمارسُ حضورَها الطاغي عليه وترسم على وجههِ ملامح من صورة البطل المهزوم من الداخل... البطل المخذول الذي يعاني من وطأة الفشل المرير في حياتهِ، ويكون عوقهُ الجسدي علامةً مميزةً للدلالة على العوق السايكولوجي الذي يحملهُ معهُ أو الذي توجَّب عليه أن يحملهُ . ومقابل غياب (فاطمة) فإن الرباعية تواصل تأكيد حضور (قادر) الزوج الغائب لـ(لميعة) (هناء محمد) وإن كان العمل الفني قد ركزَّ على عنصر الفقدان أكثر من الغياب  نفسهِ، وبغياب (قادر) تكون (لميعة) قد اقتربتْ من الشخصية المخبولة أو المنفصمة نفسياً، أمّا (مديحة) فتجَسّدُ شخصية الزوجة المهجورة التي تركها زوجها ليقترن بغيرها وبذلك تكون(مديحة) مشروعاً دائماً للعديد من العلاقات المفتوحة تقودها الى ذلك اختها نورية (افراح عباس)، وحتى صاحبة المحل (نسرين) (ليلى كَوركَيس) لمْ تسلمْ من غياب زوجها الذي يدَّعي أنه مسافر مع الإِيحاء بانها ، هي الاخرى، امرأة مهجورة ، في حين تقف (إنصاف) أمامنا، بعد الاستغناء عن خدماتها في المعمل،بوصفها امرأة فائضة عن الحاجة.
 غاصتْ «أعالي الفردوس» في قاع المدينة لتقترب من حدود (الواقعية الرثة)، وقد توسلَّ صباح عطوان بلغة درامية صريحة تحمل الضدية والقوة وسيطرتْ عليها صياغة المسرحيات الشعبية الحادة ،لكن يبقى عيب هذه اللغة إنها جاءتْ طاغية على جميع الشخوص وتستخدم ذات التعبيرات والتشبيهات دون فارق بينها يُميّز إحداها عن الاخرى.
قَدَّمَ المخرج نبيل يوسف في عملهِ  هذا عدة لمحات إخراجية ذكية تفصحُ عن مقدرتهِ الإخراجية في استنطاق النص الدرامي 
وترجمتهِ إلى مشاهد ولقطات فنية ، وقد برز جهد التصوير 
واضحاً بإدارة الراحل فائز نوري، وعَمَدَ المخرج الى 
استخدام الكاميرا استخداماً فنياً  ذكياً ومنها على سبيل المثال الاعتماد على دورات التصوير الطويلة .