قاسم موزان
تتفرّد الشخصية العراقية بصفات لافتة نالت على إثرها إعجاب واستغراب الآخرين، مثل الغيرة والكرم والتضحية وغيرها من الصفات. إلّا أنّ البكاء المرير والنوستالجيا تبدو واضحتين في نتاج الشخصية وتحميلها أعباءً مرهقة وهموما لا تنقطع، يعيد انتاجها ويستحضرها من مواقف مؤلمة من تاريخ غابر يُشك أحيانا في درجة الوثوق به لتعدد المرويات والنصوص، واختلاف وجهات النظر بشأنه، إلّا أنّه يصرّ على المروية التي تسهم في تعزيز قناعته بهذا الحدث المؤلم أو ذاك ليملأ عينيه بدموع غزيرة تشبع حاجته البكائية. ولعل سدّ الحاجة تلك يعد هروبا الى الخلف لتجنب مشكلاته كإنسان معاصر، إلّا أنّه غير قادر على الحلول. الفرد يغترب بذاته المعذبة من تجليات الحاضر الى خضم الحدث التاريخي المفجع ليكون طرفا في الصراعات التي كتب عليها الهزيمة في ظرفها الموضوعي الذي أفرزته معطيات ذلك الواقع وتسويغاته التأويلية، وهي محل شك أو مراجعة حيادية لكنه يصر على صياغة نصر من صنع خياله لإحقاق الحق وإزهاق الباطل! وحين يعود الى رشده يكتشف هزالة ما فكّر فيه، ومع هذا يعاود الكرة مرة أخرى أكثر غربة واغترابا ليبرئ ذمته من ذنب لم يقترفه.
مع هذا فهو يجلد ذاته وينعتها بالخنوع والخضوع لإرادة الأقوياء، ويقضي عمره بالحزن المبالغ فيه ولا يقرأ ولا يستمع ولا يشاهد إلّا ما يلامس مجسات قنوطه وتأففه، فهو لا يغادر محيطه المغلق إلى فضاء آخر مختلف الذي قد يشكل له صدمة في وعيه ويحدث إرباكا في مسلّماته المتوارثة و لا يحيد عنها قيد أنملة لذلك وهنا يجلد ذاته مرة أخرى ولا يرى مسوغا من وجوده الإنساني.
أمّا النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي والأخذ بالتنفس برئتين عقيمتين، خيال الفرد المضطرب يدفعه الى رسم صور جميلة مشرقة عنه والدفاع المتأخر عن الأخطاء والمساوئ التي رافقتها بما يشبه الاقتتال مع الذات، وهذا الاتكاء على الماضي والتوق له يعدان من أعنف المؤثرات السلبية التي تعصف بالعقل الفردي والجمعي على حد سواء، في الوقت التي تشير سجلات الماضي أنها كانت متخمة بالمـآسي والويلات جراء الحروب والغزوات والكوارث التي خلفتها على مدى العقود الغابرة وما تزال خزانة الحدث تختزن الكثير منها، الماضي السعيد الذي يتحدث عنه بعد زواله إنّما هو تجشؤ ناجم من عدم قدرة الفرد على التواصل مع المتغيرات الحالية وإدراك إيقاع الحياة باشتراطات واقعية لا يمكنه من إدراكها أو استيعابها وحدوث فجوات غير قادر على ردمها لضعف أدواته الثقافية والسايكلوجية، وهنا يحصل الانفصال الذي يقود الفرد أو المجموعة إلى اعتزال المجتمع الآخر غير السابق وهذا ما يعطل قدرات الإنسان على العمل المجدي ولعل المشاهد السياسية وسلسلة الاضطرابات وتراكم طبقات التجهيل أسهمت في تأجيج ثورته الصامتة التي تنمو ببطء من خلال استعارات سلبية من الواقع الموضوعي ويتصاعد الشجب والانتقاد لكل ما هو قائم وإن كان إيجابيا. ولعل ما ذكر من نكوص في الشخصية العراقية لا يختلف كثيرا عن الأفراد في العالم العربي المتخم بالأزمات المتداخلة ويمارس الدور ذاته في الحنين إلى الماضي بذاكرة استعارية.