تجارب ناهضة!

الصفحة الاخيرة 2020/03/02
...

 جواد علي كسّار
شعور مارق يتسلّل إلى داخلي أحياناً، يدعني فريسة لشك أو إحباط بنهضة البلد، ووقوفه على رجليه معتمداً على نفسه في الزراعة والصناعة وبقية مستلزمات الحياة، لكن تجارب النهوض في العالم وفي بلدنا نفسه، كافية أن تردع المشاعر المثبّطة، التي أعتقد أنها تهجم على كثيرين غيري.
يذكر مهندس النهضة الماليزية مهاتير محمد مثلاً، أن العاصمة كوالالمبور لم يكن فيها أكثر من ثلاث أو أربع بنايات عالية تصل إلى العشرين طابقاً، حين تسلم منصبه عام 1981م، قبل أن تتحوّل اليوم إلى «مزرعة» للأبراج وناطحات السحاب، والسرّ من وراء ذلك هي التعقيدات البلدية، حيث كان صاحب المشروع يحتاج إلى تقديم (200) طلب، كلّ واحد بثلاث نسخ، يستغرق البتّ بها مجتمعة بين اثنتين إلى أربع سنوات!
وكلنا يعرف أن نهضة ماليزيا ليست كمية تُختزل بعدد العمارات، بل هي نهضة شاملة ارتكزت إلى إرادة سياسية طامحة من جهة، وإلى إعادة بناء ثقافة الإنسان وتفجير طاقاته من جهة أخرى. كنتُ أتحدّث إلى صديق يعمل موظفاً مهمّاً في واحدة من الرئاسات، حين أنكر عليّ المقارنة بين ماليزيا وبلدنا، ما اضطرّني للعودة إلى لغة البديهيات، لأضع بين يديه أن الجغرافيا الماليزية موزّعة إلى شطرين يفصل بينهما البحر، وهي بلد حديث الاستقلال انفصل عن بريطانيا عام 1957م فقط، وكان من أكبر نكساتها فصل سنغافورة عنها عام 1965م، وهي إلى ذلك تعيش فقراً مدقعاً في مواردها الطبيعية، فلا نفط ولا غاز بل زراعة بدائية تعتمد على المطاط والكاكو، إلى جوار انعدام للطرق ومرافق الصحة والتعليم، فمهاتير محمد نفسه درس الطبّ في سنغافورة لعدم وجود كلية طب في عاصمة بلده.
لكن الأسوأ من ذلك كلّه هو التنافر الاجتماعي، أو أزمة الهوية بالمعنى الثقافي والاجتماعي والسياسي، فقد ورثت ماليزيا الحديثة، ثلاثة أصول أثنية دخلت في تركيب مجتمعها، هي الملايو والصينيون والهنود بالإضافة إلى أصول أُخر. هذه الأصول المكوّنة لماليزيا ليست عناوين محايدة، بل تكوينات طبقية، لها محدّدات اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالملايو وهم الأوسع سكانياً ومن المسلمين، كان نصيبهم التخلف والفقر والزراعة البدائية والحِرف البسيطة، أما الثروة والمال والتجارة فكانت للصينيين، وقد بلغ من تميّز الماليزيين الصينيين، أنهم حافظوا على لغتهم ونسقهم الثقافي الحياتي في نطاق شبه مستقل، انعكس على سلوكهم السياسي، فقد كان الماليزيون من أصول صينية يصوّتون في الانتخابات بحسب القضايا والمصالح الفئوية، لا بحسب الانتماءات السياسية الوطنية، وكان ولاؤهم لعرقهم أشدّ من ولاءاتهم الوطنية، على ما يشرح ذلك مهاتير محمد في مذكراته.
لكن كيف حصل الانقلاب وتحوّلت الأثنيات والهويات الفرعية إلى عنصر قوّة؟ بصريح العبارة أنها التسوية الكبيرة، بين السياسة والاقتصاد، أو بين الملاويين والصينيين، حين استلم الملاويون المسلمون السلطة، فنجحوا في إدارة البلد على أساس المصلحة والهوية الكبرى، وحقّقوا تقدّماً باهراً في إدارة الحكم وتنمية الاقتصاد معاً، على ما يبيّن مهاتير محمد تفاصيل ذلك في كتابه الألفي الضخم «طبيب في رئاسة الوزراء».
إذن لا يعيش العراق في جزيرة، بل من حوله قصص نجاح كثيرة لبلدان عاشت أكبر من مشكلاته، ثمّ تخطتها وصارت من الماضي!