محمد غازي الاخرس
قبل أيّام فرحت جدا وأنا ألج الجامعة المستنصرية، كان هناك عدد من التماثيل بعضها يمثل زبالين بهيئات مختلفة، أحدهم ينحني بمكناسته والآخر يدفع نثارا من الزبل، والخ. كان المنظر بديعا وغير متوقع، فنحن لم نعتد أبدا الاحتفاء بهذه الشريحة وتبجيلها ولو بشكل رمزي. هذه هي ثقافتنا، إنها تحتقر هذه المهنة وتعدها من
“أرذل” المهن.
وعادة ما نعير المرء بكونه زبّالا أو “نزّاحا” ولربما نسم الشخص إذا بدا غير مهندم ولا أنيق بأنه “جنه زبال”، بل إننا إذا ورد في ذهننا أن نتحدى أحدا بعدم الركوع له نسارع للقول مثلا: والله ما أطخ له راس لو أشتغل
زبّال.
والحال أن احتقار بعض المهن نسق معروف وراسخ في ثقافتنا، ففضلا عن الزبال والنزّاح، هناك الحائك وزارع الخضر، وقديما كان العرب يحتقرون المزارعين وحتى التجار على اعتبار أنهم يكسبون رزقهم بعملهم وليس بغزوهم القبائل الأخرى.
يقول جواد علي: “أمّا الأعراب فكانوا يزدرون شأنها ـ أي الزراعة ـ وينقصون من قدر المزارع ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضا حتى أنّ بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض حتى بعد الفتح تاركين ذلك الى أهل الذمة”.
وينبه الراحل علي الوردي للأمر ذاته متوقفا عند احتقار مزارعي الخضار (الحساويّة)، والحيّاك وصنّاع القوارب والذهب والخياطين وغير ذلك من المهن التي لولاها لما أمكن للحياة أن
تسير.
الغريب بل المحزن أن هذه المهن، من فرط احتقارها من قبل المسلمين وشيوع أحاديث غير مثبتة في ذمها، أصبحت حكرا على الأقلّيات الدينيّة كاليهود والمندائيين والمسيحيين، أو على شريحة “المعدان” التي رميت بشتى التهم المزيفة، وهذا الأمر أثّر لاحقا في تخصص غير المسلمين بالمهن الدقيقة وتوارث أبناءهم لها كابرا عن
كابر.
على ما أتذكر في العام 2012 أنني تابعت حفل ختام أولمبياد لندن، ولشد ما دهشت حين قدم البرازيليون درسا كبيرا للعالم بتقديمهم فقرة خاصة ببلدهم كونهم سيستضيفون الأولمبياد الذي بعده، أي المقام عام 2016، وتمثل الدرس العظيم في اختيارهم الزبّال كأحد الرموز الاجتماعية المعبرة عن شعبهم. وكان الزبال الذي رقص السامبا في حفل لندن أنيقا وهو يرقص ممسكا بمكنسته أمام أنظار الملايين من مختلف الثقافات.
كل ذلك تذكرته وأنا ألج المستنصرية فأراهم؛ كان أصحابنا الثلاثة يزينون فضوة صغيرة تحيط بها حديقة جميلة، وكان هناك طلبة يجلسون قرب التماثيل، تماثيل عمال النظافة الذين ما زلنا نسمّي الواحد منهم
“زبّالا”.. ويا عجبي!