رواية التأريخ والأنساق الثقافية

ثقافة 2020/03/03
...

صباح محسن كاظم
 
 
 
ثمة سرديات لأحداث تأريخية بأنساق مُضمرة ومُعلنة، استطراد تارة وأخرى تركيز على بؤرة مركزية في صناعة الحدث التأريخي، لذلك تغوص بالأعماق أحيانا، وبالواقع السياسي السابق والسائد أحيانا أخرى. برع (محمد خضير سلطان) بروايته "شبح نصفي" بجمع خيوط الأحداث من دون أن تشتبك وتضيّع وتتداخل، بل كان النسق البنائي منسوجا مثل سجادة فاخرة البهاء مزخرفة مُنسجمة الألوان والصور. يمكننا تصنيف تلك الرواية على أنّها "سوسيو ثقافية" برصد الحركة والصيرورة والتكون العشائري والبدوي والمدني وتلك التحولات الإجتماعيّة ومآلاتها. نعم ورد بالإشارات هوية الإنتماء للرواية "ضمن حقل رواية الأفكار" فالراوي استند على: تأريخ الشخصيات، المكان، الزمان، المصائر، اشتبك بالأحداث (الواقعي/ بالرمزي). بالطبع تخوم مدننا إطلالة على الصحراء، هذا الفضاء اللامتناهي والأفق المفتوح وكل محمولاته الثقافية للمستوطن فيه من عادات وتقاليد وتفاعل مع بيئة رعويّة صعبة، وبين المدينة والرخاء النسبي والواقع العلائقي الاجتماعي المُختلف ببنيته وأنساقه بإحالات رمزية سيميائية في غاية الحبكة السردية. سرديّة حكاية (آل فالح)، إشارات وإحالات تأريخية لحركة اجتماعية مليئة بالتحولات والأحداث التي ميزت تأريخ العراق التي جسدت بنصب الحرية الشامخ بقلب بغداد النابض بالحركة وقصة شعب تواق للحرية جسّد "جواد سليم" ببراعة متناهية تفاصيل ذلك، الذي استعار منه الروائي "محمد خضير سلطان" إيقونة الوجه وكسر الأغلال بمراحل تشكل تأريخنا الوطنيّ مفصل صرخة المرأة / الحمامة بإشارته ص7. جدارية جواد سليم بوصفها ملامح هوية باحثة عن تشكل وقادرة حسب قراءة الرواية على مسألة البحث عن الحركة المفقودة والنغم الخفي في الكتلة الجماهيرية). اختزال رحلة مئات السنين لحروب واضطرابات آل فالح جابت الفيافي والأقفار، هروب، مُلك مُضاع، بدل ضائع في الكون الصحراوي الشاسع، شخصيات مرت وصنعت الحكايات: عبد الله العامر، عبد الفتاح إبراهيم، زيدان الفالح، أسعد الفالح، نسيمة، جبار محيبس، الداغستاني. 
مراحل تاريخية بتحولاتها بكل الجوانب الاجتماعية والسياسية وظفها بإتقان "سلطان" شبح القتيل ص25: ( يتدرج الضوء ثانية ليتحول المكان الى منحى جسر الأئمة، تصعد وتنزل فيه أشباح مشيعين مطرقين، كل اثنين منهم يحملان غريقا يقطر ماء، ويسيرون منتظمين صعودا ونزولا عند المنحنى على إيقاع هزيم بعيد ..) الروائي "سلطان "استحضر منحوتتين آخرتين: تمثال الجنرال مود، وتمثال الملك فيصل في إشارة إلى  دخول المحتل  مطلع القرن الماضي ومقاومته بثورة العشرين. 
سلطة العائلة المالكة التي حكمت العراق لنيل الاستقلال ودخول عصبة الأمم بعد ذلك والتحولات الدراماتيكية والمخاضات ضد سلطة الاستعمار متمثلة بتمثال الجنرال مود، في إشارة رمزية عن الرفض عبر حوار استنكاري استهجاني :
قال الاول:
– عاد الملك فيصل إلى حصانه!
قال الثاني:
– كاد الجنرال مود أن يعود!
قال الثالث:
– عاد!
  الحوارية بالمتن الحكائي تجسد تشابك الصراع وذروته بأرض السواد والخيرات والخصب والنماء ومواطن أقدام الغرباء ممن يبحثون عن مواطئ أقدام ونفوذ يدفع بسيل اللعاب للاستحواذ على الثروات! بالمقابل هناك ردة فعل الشعب العراقي بتاريخه المحتج الرافض لكل الغرباء، والإيمان بوحدة البلاد والشخصيات الوطنية التواقة للحرية يغدو فيه الحكي بين الجدّة والجدّ وصولا للأحفاد عن قصة شعب مرت به المحن التأريخية وهو يُحاول الخروج من رماد وجمر الحدث كالعنقاء تبعث بعد الإحتراق. ببنية الرواية استطاع  المبدع "محمد خضير سلطان " في سردية الأحداث الربط بالسياق التأريخي للأحداث، في كتاب القراءة النسقية سلطة البنية ووهم المحايثة – أحمد يوسف ص 233 يؤكد :
(.. فإنّ الإنتقال من البنية إلى الدلالة يؤكد أنّ المقاربات البنيوية العربية لم تنصرف إلى البنيوية الصورية، ولم تبق السيرة مفاهيم اللسانيات البنيوية وإصطلاحات، وإنما أضفت عليها طابع المرونة، واستعملتها استعمالا يكاد يكون مغايرا لإصولها الأولى، ولكنها كانت متفقة على الضرورة قراءة النص)، فالمتن الحكائي بشبح نصفي صوّر للقطات تأريخيّة لتحولات سوسيو ثقافية بوطن لا يعرف السكون. في ص 140: ( ترى أي ميت يمسك بخناق الجدة عندما روت حكاياتها أم تراها هي الآن تمسك بخناق حسنية المفجوعة وتودع حكاياتها في خلدها الحزين إذ سيحل شبحها فيها لتروي روايتها الجديدة عن آل فالح أم ترانا لا نحقق شيئا، ونعيد ترتيب أفعالنا من جديد لدى أجيالنا المقبلة، لسنا سوى أنصاف أشباح سنأخذ موقعنا في حياتهم).