الرواية وثنائيّة التاريخ / التخيّل

ثقافة 2020/03/04
...

عادل الصويري
 
حتى وقت قريب؛ كان الشغل الشاغل لمسعى التجريبيين في الكتابة السردية، ينحصر في أساليب تكثيف اللغة، والحضور الاستعاري، من خلال شعرية الجملة السردية؛ لإعطاء المبنى الحكائي أبعاداً أكثر جمالية. ولا خلاف على أن هذا المسعى أضاف للسرد الحديث الشيء الكثير، لكنه في ذات الوقت قد يشكل مغامرة غير مأمونة العواقب في حال ظهر بشكل اعتباطي في ظل الهيمنة اللغوية المجازية على حساب الحكاية التي تشكل غايةً في العمل السردي، الذي قد ينتهي به الأمر وفق هذه المغامرة إلى أن يكون مجرد قصيدة غاب عنها الضابط الايقاعي لا أكثر.
ولهذا انتقل التجريب عند بعض كُتاب الروايات، من تجريب اللغة إلى تجريب النبش المعرفي في أحداث التاريخ وصانعيها.
اليوم، يعود الحديث مجدداً عن حضور الأحداث التاريخية، وأبطالها، في الكتابة السردية، وفي فن الرواية تحديداً، مع الصعود اللافت لهذا النوع من الروايات في أكثر المؤسسات المعنية بإقامة مسابقات الرواية، والذي أثار استفهامات وردود فعل متباينة.
وتفاعل الحدث التاريخي مع الكتابة السردية يعود إلى روايات القرن التاسع عشر في أوروبا، بعد تلاشي زمن نابليون، وتصاعد الموجات الثورية في فرنسا، والتي عززت الشعور بالانتماء القومي، فتعززت حاجة العودة إلى التاريخ.
 ثم حضر ذات التفاعل في المدونات السردية العربية التي كَتبت بشكل أثار كثيراً من السخط تاريخ الإسلام كما في اعتراضات النقاد على روايات (جورجي زيدان)، قبل أن تتطور العلاقة بين التاريخ والسرد لتصبح أبعد من مجرد كتابة تعطي المعلومات التي أصبحت متاحة في زمننا الاتصالي المتسارع، أو الفخر بمآثر الأجداد، والاستعانة بالأدب الشعبي، وقصص عنترة بن شداد، وألف ليلة وليلة.
وبعيداً عن المسابقات، وسياقاتها، ومعاييرها، نرى أن اتكاء الرواية على التاريخ أو العكس ناتجٌ عن تداخل مفاهيمي بين الجنسين، حتى مع الاختلاف بين تسميتي (رواية التاريخ) و(الرواية التاريخية)، فالأولى يكون المؤرخُ معنياً بتفاصيلها الواقعية، بينما يكون الروائي في الثانية معنياً بإعادة سردها، وما يترتب عليها من رؤى وتصورات وفق مخياله، مقدماً تخيلاً سردياً قد لا يشترط المطابقة مع الحدث الواقعي، وهي المطابقة التي يؤكد عليها الناقد (سعيد يقطين) الذي يعتقد أن تطابق السرد مع الأحداث الواقعية يحفز السارد على التخيل، بينما هناك من يرى أن لا حاجة لمثل هذا التطابق لتحقيق التخيل، بل يكفي اجتهاد السارد فنياً لفهم الأنساق والدوافع التي نتج عنها الحدث التاريخي.
لكن إلى أي مدى نجح الروائيون في ثنائية التاريخ/التخيل، خصوصاً مع الموجة التجريبية التي اجتاحت أكثر الروايات الحديثة على مستوى اللغة والبناء والمتواليات السردية؟ والجواب عن هذا التساؤل يمكن استخلاصه من النتاجات الروائية التجريبية التي ظلت مع تجريبيتها وفية ومخلصة لعنصر الزمن، وبذلك لم يكن هناك أي بون بين استدعاء التاريخ، والمسعى التجريبي في الكتابة السردية. بل على العكس تماماً، نعتقد أنَّ التجريب ومزاوجته بالتاريخ ارتفع بالكتابة الروائية، على العكس من التوجه السردي المتعامل «كلاسيكياً» مع التاريخ، ولم يستطع هذا التوجه أن يعمل مقاربة ناضجة تبعث الحدث التاريخي من رقدته. هذا الاحياء للتاريخ من بوابة الكتابة السردية وخصوصاً الرواية يحتاج إلى مغامرة شجاع، مجرب، ثائر، يضع بصماته الجمالية في قول ما عجز عن قوله المؤرخون الذين ارتبطوا بالسلطات والايديولوجيا. هذا المغامر الشجاع سينسف الرؤى والتصورات التي قالت بـ (موت التاريخ)، بأدوات تمثل استراتيجية تهتم بالمستقبل، وتطل على الحضارة من شرفة الوعي بالتاريخ وامتداداته المتصلة بالحاضر، ومساهمته في إحداث التحولات الكبيرة في المجتمعات البشرية، ولا تجعله مرتهناً للزمن بشكل أشبه بالكلي، بل يقدم تصوراته وإيديولوجيته الخاصة، محققاً بذلك هدفاً يشاركه القارئ فيه. وفي هذا الصدد يقول الناقد الجزائري (علاوة كوسة): «كان كثير من الروائيين – بلمساتهم الفنية – أكثر شجاعة من المؤرخين الذين جبنوا عن قول الحقيقة في منعرجات اعترافية كثيرة، وبذلك أمكن للروائي أن يعتلي صرح التاريخ بأدوات أكثر جمالية وحرية واستشرافاً ممن ظلوا يوزعون التاريخ بين الأجيال بالتقسيط الممل، الغامض، المكذوب أحياناً»
لقد أسقطت الرواية التاريخية بتفاعل ثنائية (التاريخ/التخيل) تلك النظرة الجامدة على فكرة التاريخ التعليمي، بارتباطها بالواقع المعاش، واعتمادها على التنظير والتحليل بدلاً من التقديم الجاهز للحدث وصُنّاعه وظروفه المرحلية، 
بحيث يكون الروائي قارئاً قبل أن يكون منتجاً لعمله السردي، ولا يسمح للتوثيقية أن تحكم قبضتها على مساراته السردية التي تحد من حرية النص في الانفتاح على كل الممكنات، وتعرقل مرونته المبتكرة والمنزاحة.