الرحلة الاعتقاديَّة لمحمد عمارة - 2 -

ثقافة 2020/03/04
...

د. عبدالجبار الرفاعي
 
يسود كتابات محمد عمارة تفكيرٌ تبسيطي، يتوقف عند السطح، ولا يشأ أن يتوغل في اكتشاف الطبقاتِ التحتية المولّدةِ للأفكار والظواهر المجتمعية. تتحكّم بتفكيره أدواتٌ نهائيةٌ يفسِّر فيها كلَّ شيء، ولا يتردّد في إطلاق أحكام اتهامية، لا صلةَ لها بالفكر، عندما يتحدث عن بعض المفكرين وكتاباتهم، ففي حديثه عن طه حسين مثلا يتهمه بأنه وقع تحت تأثير زوجته الفرنسية وعمّها القسيس، بقوله: «الرجل تزوج امرأة فرنسية، وعمها قسيس أثّر فيه بعمق» ، ولا تخلو لغتُه من هجاء لمن يكتب عنهم. 
ترك محمد عمارة بصمتَه الفكرية في كل مؤسسة أو مركز أبحاث أو مجلة انخرط فيها، ففي المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومشروعه لإسلامية المعرفة الذي كان أحدَ مستشاريه، تغلّبت على مشروع إسلامية المعرفة نزعةٌ تراثيةٌ مغلقة، تراجعت معها آفاقُ التفكير الاجتهادي النقدي الذي كان يعدُ به المعهد عند 
تأسيسه. 
كان محمد عمارة ضدّ طباعة كتاب «المنهجية المعرفية القرآنية»، الذي كتبه صديقنا المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد، تلبية لطلب رئيس المعهد وقتئذٍ الصديق المرحوم طه جابر العلواني، ولبث الكتاب سنوات طويلة غير مطبوع. بعث لي الصديق محمد همام بنسخته المصورة عبر البريد، من المغرب «أغادير»، وعند تسلّمي الكتاب طالعته مباشرة، فتحمست لنشره، واستأذنت طه العلواني، فأجاز لي طباعته وتوزيعه. وكان المؤلف شديد الحرص على طباعته، فأصدره مركز دراسات فلسفة الدين، خلافا لإرادة ادارة المعهد التي حجبت مخطوطته سنوات طويلة عن القرّاء. ألّفَ حاج حمد كتابه سنة 1991، ولبث في المخطوطة حتى سنة 2013 عندما بادر مركزنا بنشره.
وهكذا رأيتُ أن تأثيرَه طغى على مجلة المسلم المعاصر، هذه الدورية التي غامرتْ بمناقشة قضايا منسيّة عند صدورها، وأثارت أسئلةً جريئةً، وفتحت نافذةَ ضوءٍ لتفكير عقلاني نقدي، يتخطى المتعارفَ في أدبيات الإسلاميين المبسطة. كانت تربطني علاقةٌ شخصية بصاحبِ المسلم المعاصر ورئيسِ تحريرها المرحوم جمال الدين عطية، وبأخيه محيي الدين عطية، وكنت حريصا 
على مطالعة أعدادها، وترقب صدورها. فوجئت عند صدورها بدعوة هذه المجلة إلى اجتهادٍ معاصرٍ يتجاوز التراثَ مرتين: يتجاوزه مرةً بالتحرّر من ركام القراءات المختلفة، مما أنجزه المسلمون منذ عصر التدوين إلى اليوم في علوم المنطق والفلسفة والكلام والتصوّف، والتفسير والحديث، والفقه وأصوله، والتي حجبت الكتابَ الكريم والسنّةَ الشريفة، وشكّلت بالتدريج جدارا صلدا يحول دون استلهامهما والاتصال المباشر بهما. ويتجاوز الاجتهادُ الذي تدعو إليه «المسلم المعاصر» التراثَ مرةً أخرى بالتحرّر من مشاغله وهمومه التاريخية، والاندماج بالعصر، ناهلاً من معارفه ومكاسبه العلمية، ومتفاعلاً مع قضاياه، وواعيًا لمشكلاته، ومستشرفًا لمستقبل 
أمثل.  
سألت محيي الدين عطية عن سبب تأخر صدور أعداد المجلة في الثمانينيات من القرن الماضي، فأخبرني بافتقاد المسلم المعاصر فجأة لعدد كبير من الاشتراكات لمكتبات الجامعات السعودية. المسؤول المباشر في الوزارة عن الاشتراكات أوقفها كلها، لأنه يرى الأفكار التي تنشرها المجلة منحرفة 
ضالة. 
وأضاف عطية أن أحد الأصدقاء نقل له عن محمد قطب «المتوفى 2014» الأخ الأصغر لسيد قطب قوله: «إن مجلة المسلم المعاصر تأسست لمواجهة فكري وفكر أخي سيد قطب». لكن بعد أن أضحى محمد عمارة أحدَ أعمدة هذه المجلة، تقلّص فضاءُ التفكير الحر فيها، وانحسرت مساحةُ الاجتهاد والنقاش والأسئلة الكبرى على صفحاتها. 
لفت نظري هذا التحولُ في نهج هذه المجلة التي كانت غريبةً بين ركام المجلات الإسلامية المعروفة، فسألتُ صديقا من محرّري المسلم المعاصر، قبل عشرين عاما، عن سرّ هذا التحول المثير الذي افتقدتْ معه المجلةُ رسالتَها المعلنة، وانكفأت على نفسها، وانطفأ ألقُها، وغاب عنها بعضُ كتّابها الجسورين، والذي حدث بعد مرور سنوات على صدورها، فأجابني: إن دخول محمد عمارة الفاعل والمؤثر على تحرير المجلة، عمل على توجيه بوصلتها باتجاهٍ على الضدِّ من وعود هذه المجلة عند صدورها، فهو لا يستسيغ ما كانت تنشره من اجتهادات ونقاشات وأسئلة في سنواتها الأولى. 
رحم الله محمد عمارة، الذي كان فكرُه فاعلا ومؤثرا على مدى ستين عاما، ومهما اختلفنا معه، ينبغي أن نعرب عن الأثر الفائق الأهمية لآثاره في تدافع الأفكار وتصارعها في عالَمنا. وإن كان محمد عمارة يضيق ذرعا بالاختلاف في محطته الاعتقادية الأخيرة، وكأنّه لا يدري أن الاختلافَ شرطُ حياة كلِّ فكر حي، وضرورةٌ لتجديده، لأن طاقةَ الحياة الخلاقة في اختلافها، وجمالَها في تنوّع ألوانها، وحيويتَها في تعدّد أشكال تجلياتها، وفي تضادّ تعبيراتها نكتشف المنبعَ الأثرى لديناميكية تغييرها.
   لا ينبغي أن ننسى بعضَ مواقف وكتابات محمد عمارة في محطته الاعتقادية الأخيرة، التي كانت تحريضيةً قاسيةً ضدّ مفكرين عقلانيين، بل ضدّ كل من يراه خارجا على فهمه للدين والتراث. كان محمد عمارة أحد الموقعين على بيان يتهم فرج فودة بالارتداد، ويستبيح دمه. و»بالتحقيق مع أحد من قتلوا فرج فودة أعلن أنه قتل فرج فودة بسبب فتوى دينية بقتل المرتد. وحينما سأله المحقق، لماذا قتلت فرج فودة؟ أجاب: لأنه ينشر كتبا تدعو إلى الكفر والإلحاد. 
تابع المحقق: هل قرأت هذه الكتب؟، فأجاب القاتل: لا، أنا لا أقرأ ولا أكتب». وبسؤال القاتل عن 
اختيار موعد الاغتيال قبيل عيد الأضحى، أجاب «لنحرق قلب أهله عليه أكثر». 
  وتورط محمد عمارة بترديده عبارات السلفيين الجاهزة لمعتقدات وتراث المسلمين الذين يؤمنون بمعتقد لا يطابق معتقدة. ففي محطته الاعتقادية الأخيره انخرط محمد عمارة في موجة الهجوم العنيف ضد الشيعة واتهام معتقداتهم وتراثهم، على الرغم من أنه يعرف التراث الشيعي بشكل ممتاز، وكانت تربطه صلات مع علماء الشيعة، وقد أعرب أمامي عن احترامه لهذا التراث، واعجابه بالتعليم الديني في الحوزات، وتبجيله للنزعة العقلانية فيه، غير أنه تمادى في كلامه ضد الشيعة، وترديد عبارات السلفيين الجاهزة واتهاماتهم المكررة لمعتقداتهم وتراثهم. 
 كما لا ينبغي أن ننسى اصطفافَه مع الأخوان المسلمين، ودعمَ مواقفهم، بلا شروط أو تحفظ أو نقد، بمواقفه وكتاباته، حتى اليوم الأخير من حياته. وتناغم كتاباته ومواقفه مع السلفيين، فلم نقرأ له مراجعاتٍ نقدية، وهو الخبير بتراثنا البعيد والقريب، للسلفية الجهادية والقاعدة وداعش، والجماعات الدموية، أو إدانةً لمذابحهم وتدميرهم للمدن في سوريا والعراق، وسبيهم واستعبادهم للنساء من غير المسلمين من المواطنين، واستباحتهم لأمن مجتمعاتنا، وتهديدهم للسلام العالمي.