تتحدى الأنا ذاتها وتسعى جاهدةً إلى تسخيرها وتحفيزها وتجنيد طاقاتها لخدمة مجموعة من المقاصد العابرة من فوقها كي تشعر بقوّة وجودها وحضورها وتأثيرها، بصرف النظر عن صدق هذه المقاصد أو كذبها لأنّ الهدف هو مراكمة ما أمكن حول الذات من مواد أولية متنوعة، تسهم في تعاظم شأنها وتوسيع حدودها وفرض هيمنتها على ما حولها من ضمائر وكيانات وموجودات، بحيث تبدو فكرة "نكران الذات" على هذا النحو مجرّد نكتة سَمِجة لا تضحك بل تستدرّ الرأفة والشفقة، لفرط استهلاكها وإعادة إنتاجها في مدونة الضمير والحق والعدل والوعي وغيرها.
فالأنا بطبيعة تكوينها شديدة التذوّت حول مركزيتها التي تذهب قدر الإمكان باتجاه احتلال ما يمكن من المساحات على حساب الأنوات المجاورة، في نوع من الصراع العنيف الساحق تتعرّى فيها الذوات الأنوية المتكالبة على القمّة جميعاً لتفوز في النهاية من احتفظت بما يسترُها من أسمالٍ وبقايا شجرة التوت بوصفها علامةً على انتصارها وتفوّقها، في قتالٍ تتنازل فيه الذوات الأنوية المتصارعة عن أبسط معاني النبل وأخلاقيات الحرب المهنيّة المتعارف عليها، كي تتحوّل إلى كائنات إرهابيّة تدمّر ما ومن يقف في طريقها بلا
رحمة.
لا تكترث الأنا في صراعها الدائم مع الذوات الأخرى بما تتركه في أرض المعركة من ضحايا وهلاكات ودمار وأشلاء وآثار، بل تمضي في عنجهيتها المزيّفة لتصنع أكاذيبها في ضوء ما تنحته من تمثال الوهم المتعاظم لها، ولا شكّ في أنّ مفردة "أنا" حتى على صعيد الفهم اللغويّ الدلاليّ والصوريّ والرمزيّ، إنّما هي إلغاء تامّ للآخر، فمكوث صوت النون القلق والضعيف والخجول بين الهمزة الصاعدة نحو الأعلى والألف الموازية لها في العلوّ، يوحي بصرياً بأنّ الهمزة والألف يزيحان جانباً كلّ ما يمكن أن يحيط بها من حروف أو يقترب منهما في أقلّ تقدير، فهما عمودان عاليان يُسقِطان النون الهابطة أسفل المسافة الضيّقة بينهما ولا يسمحان لها حتّى بالتنفّس، وإذا كان اضطهادهما ينصبّ أوّل ما ينصبّ على نونهما فكيف يمكن أن يتعاملا مع البقية؟
الأنا مفطورة في أصل تشكيلها وكينونتها ووظيفتها على الكذب ومشتغلة على تعظيم طاقة الوهم فيها، لذا فقد جاء في الموروث الشعبيّ الدينيّ المتداول أنّه حين يذكر الراوي أناه في سياق روايته عن حدث ما يخصّه سرعان ما يستدرك بقوله: "وأعوذ بالله من قول أنا"، تعبيراً ضمنياً عن أنّها شكل من أشكال الشيطان الذي يستحق الاستيعاذ بالله منه، وقد يلجأ بعض المتحدّثين إلى استعمال الضمير الجمعيّ "نحن" بدلاً من الضمير المفرد "أنا" حين الحديث عن النفس، وذلك تخفيفاً لوقع الأنا السيئ على السامعين، مع أنّ ثمة من يذهب نحو تفسير ذلك بوصفه تعظيماً للأنا أكثر من طبقة الذاتية نفسها أحياناً، لكننا نرى أنّها في الأغلب الأعمّ تُستخدم هرباً من استخدام الأنا غير المُحبَّذ استخدامها كثيراً في الأوساط
الاجتماعية.
يتحاشى الممتلئون الأذكياء الواثقون من أنفسهم استخدام الأنا في أحاديثهم حتّى لو كانت هذه الأحاديث تخصّ تجاربهم الذاتية، وقد يستخدمون أحياناً ضمير الغائب للحديث عن أنفسهم وكأنّهم يتحدثون عن آخر، احتراماً لمجتمع الإصغاء الذي لدى أفراده أنوات أيضاً ولا يصحّ التبجّح أمامهم بأكاذيب الذات وتعظيم أوهامها، ويتخفّفون كثيراً من إعلاء شأن منجزاتهم وأسطرتها على نحو يقلّل من أنوات السامعين على نحو أو آخر، مع أنّهم بطبيعة الحال يعتزّون بأنواتهم ويرغبون في مزيد من "البروباغندا" حولها بطريقة تبدو عفويّة وغير مقصودة قدر الإمكان، بما يحقّق المطلوب بأقلّ ما يمكن من
الخسائر.
أشباه الأدباء والمثقفين من الأدعياء هم أكثر الناس حديثاً عن أنواتهم وإعجاباً بها وتمركز حولها، فثمّة عاملان جوهريان يؤلّفان صورة الأنا هما: السلوك والكلام، وثنائية السلوك والكلام ثنائية متضادّة تقوم على صراع يحاول طرف منهما الهيمنة على الآخر، فحين يعبّر السلوك عن معنى الأنا وقيمتها وحيويتها ومناخها وحقيقتها لا يحتاج الإنسان إلى الكلام لإقناع الآخر بأهميّة أناه، بينما حين يُخفق السلوك في إنتاج هذه الرؤية السليمة حول الأنا ينبري الكلام كي يقوم بدور السلوك، لكنّه سيلهث بركام هائل من الكلام الكاذب المشتغل على تعظيم الوهم كي يعوّض فقدان السلوك الغائب، وسينتهي إلى رماد تذروه الرياح لتبقى الأنا المسوّرة بالكلام عارية بلا رصيد ولا مُعين ولا ذخيرة.
تتحوّل قضية التذويت عند أشباه الأدباء إلى مرض حقيقيّ لا شفاء منه حين يتمسّك المريض بالمرض ويصرّ عليه ويدافع عنه لا العكس
، فكلّ من كتب نصاً وهلّلت له مجموعة من أصدقائه الأميين حَسِبَ أنّه صار شاعراً أو قاصاً أو ناقداً، وصار يتحدّث بملء فمه عن تجربته الأدبية بوصفه فاتحاً كبيراً لا يفتأ يقول أنا كتبتُ كذا وعملتُ كذا وأنجزتُ كذا، وهو من أوّله إلى آخره مضافاً إليه ما تقيّأه من كلام ملوّث لا يساوي جناح بعوضة في أردأ سوق يمكن أن يعرض بضاعته البائرة فيها، فيتعكّز على هذه الأنوية المقيتة كي يُعظّم وهمه في فضاء قميء من الكذب على ذاته وعلى
الآخرين.
الكذب والوهم خَطّان متوازيان متعادلان ومتآلفان بطريقة عجيبة لا نشاز فيها ولا تضاد ولا خلاف
، يغذّي أحدهما الآخر ويعاضد أحدهما الآخر لأجل بلوغ نتيجة واحدة ترضاها الأنا وتقبل بما تنتجه من سلسلة أكاذيب وأوهام تعزّز الشعور بالذاتية، الكذب يصنع الوهم، والوهم يبرّر الكذب، في دورة مستمرّة لا حدود لها، يتماهى فيها الخَطّان على نحو تتعاظم فيه صورة الوهم ويتّسع حجم الكذب وتتعدّد أنماطه وأشكاله
، بحيث يستند أحدهما إلى الآخر ولا يمكنه بعد ذلك الاستمرار في التمادي والتوسّع والتعاظم من غير معادلِهِ وموازيهِ في شتّى العمليات المشتركة، وتكون الذات الأنوية المريضة دائماً هي محور التفاعل بينهما، فالكذب يُكبّر الصورة المرضيّة للأنا، والوهم يُعبّد لها طريق التغوّل في أرض المرض ليتمّ تحويل الأنا بكليّتها إلى مرضٍ مُزمنٍ ترعاه الأسطورة وتحميه
الخرافة.