يمكن النظر الى رواية زهير الجزائري الرابعة «باب الفرج» الصادرة عن منشورات المتوسط 2018، إيطاليا، بعد رواياته الثلاث «المغارة» الصادرة عام 1976 في بغداد، و»حافة القيامة» الصادرة عام 1998 في دمشق، و»الخائف والمخيف» الصادرة عن دار المدى في دمشق عام 2003 بوصفها سيرة مدينة، وربما سيرة سردية عن المدينة، وقد نذهب مع بول ريكور الى عدّها تجسيداً لتشكل الهوية Narrative Identity للمدينة من خلال السرد، مثلما وجدنا ذلك في دراسة سابقة لنا عن محمد خضير في «بصرياثا» 1993 ومهدي عيسى الصقر في «المقامة البصرية العصرية: حكاية مدينة» 2004، وهو ما سبق لنا وان خصصنا له مبحثاً خاصاً في كتابنا «المبنى الميتا سردي في الرواية» الصادر عن دار المدى عام 2013، ص 201.
إذْ تبدو الرواية، في مظهرها العام، رواية اجتماعية عن حياة مدينة محددة هي مدينة النجف الأشرف وأناسها في الفترة ما بين احتلالين: الاحتلال العثماني، والاحتلال البريطاني، وتحديداً المدة من 1906 الى السنوات الاولى من اندلاع الحرب العالمية الثانية ودخول القوات البريطانية الى البصرة عام 1916. لكن الرواية، أغنى من ذلك بكثير، فهي تضمر منظوراً حداثياً في السرد، وتعيد النظر في تاريخنا الحديث عبر رؤيا نقدية شاملة، وتلاحق مظاهر التحديث والصراع الاجتماعي السياسي والايديولوجي داخل المدينة وشرائحها السياسية الدينية والثقافية. وهي تكشف من جانب آخر عن مزاوجة بين السرد الفنطازي الغرائبي من جهة والسرد الواقعي والتاريخي من جهة أخرى، وهي بهذا تتيح الفرصة للقارئ، وكذلك للناقد الفرصة لقراءتها من زوايا نظر مختلفة.
تتمحور النواة السردية للرواية حول أسرة الشيخ مرتضى، أحد وجهاء وتجار مدينة النجف. والرواية تشبه في هذا الى حد كبير البنية السردية لثلاثية نجيب محفوظ المعروفة التي تضم «بين القصرين» 1956، و «قصر الشوق» 1957، و «السكرية» 1957. كلاهما تدوران حول شخصية مركزية هي شخصية الاب (أحمد عبد الجواد، والشيخ مرتضى) وهما تنتميان الى مايسمى برواية الأجيال، وتسمى أحياناً برواية الأزمان أو النهر. لكن رواية زهير الجزائري تمتد زمنياً ومكانياً، لتقديم صورة مدينة النجف، بوصفها مكاناً مولّداً للأحداث ومن ثمّ لتصوير جوانب مهمة من تاريخ العراق عند بداية الحرب العالمية الاولى وظهور المقاومة العراقية للاحتلال البريطاني للعراق.
ويعتمد مؤلف «باب الفرج» في تقديمه للأحداث على تعددية الأصوات ووجهات النظر السردية المختلفة التي تقدمها العشرات من الشخصيات الرئيسة والثانوية، ومنها شقيقا الشيخ مرتضى: الشيخ عباس الاسدي، والشيخ جعفر، وأبناؤه وأحفاده، فضلاً عن الشخصيات الدينية والسياسية والثقافية التي كانت مؤثرة ومعروفة في المجتمع النجفي في تلك الحقبة الزمنية الدقيقة من تاريخ العراق. ومن خلال هذا المنظور البوليفوني، التعددي، تقدم شخصيات الرواية تصوراتها المبأرة بطريقة فنية، من خلال استغوار واستنطاق العوالم الداخلية لهذه الشخصيات عن طريق المونولوغات الداخلية، وبناء المشاهد الروائية وتقديم الحوارات الخارجية، فضلاً عن الرسائل والوثائق والمخطوطات التي تدعم البنية السردية، مما يضع الرواية ضمن فضاء السرد الحداثي، بما فيه من تركيز على الهامش الثانوي واهمال المركز، وخاصة عند التعامل مع الوقائع التاريخية والسياسية المهمة. فالروائي، في تناوله للتاريخ، يعمد الى خلق تاريخ افتراضي، تخيلي للمدينة، ولا يتقيد بإعادة انتاج التاريخ الرسمي الا فيما ندر. ولذا يمكن القول ان الرواية تصنع تاريخها البديل الخاص بها.
فالروائي، في تشريحه لبنية المجتمع النجفي، لا يكتفي بنقل ما هو ثابت وساكن ومستقر في التقاليد والطقوس والعادات الاجتماعية الدينية، بل يبحث عن عناصر المغايرة والاختلاف والنمو داخل هذه البنية المكانية، وهو في هذا يحقق منظور الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان بعدم الركون الى مايسمى بـ «الوعي القائم» وهو في الغالب وعي سكوني ومتخلف، بل يبحث عن ما يسمى بــ «الوعي الممكن» الذي يستقرئ الاتجاهات السلوكية والفكرية للأفراد، والتغيرات الاجتماعية والطبيعية، التي راحت تهتز بقوة تحت وطأة مظاهر التحديث المختلفة ومنها وصول تقنيات ومصنوعات واختراعات ومعدات جديدة مثل المكائن الصناعية والمدارس الحكومية والقطار الذي حرّمه بعض رجال الدين بقولهم «كيف تتركون حمير الله وتركبون الشمندفر»، فضلاً عن التأثير العنيف على بنية المجتمع التي تركتها الحرب العالمية الاولى، وبشكل خاص هزيمة ابناء العشائر ورجال الدين في مواجهة القوات البريطانية الغازية في البصرة، مما ادى الى تزعزع الكثير من الثوابت الفكرية الايديولوجية التي كانت تعول في تحقيق النصر على عناصر ميتافيزيقية مثل الاستنجاد بالمقدس وبالاولياء، وانتظار ظهور الإمام المهدي، الذي سينصر المسلمين على «الكفار» الانكليز. وقد سبب ذلك شرخاً عميقاً في الوعي لدى شرائح سياسية ودينية وثقافية مهمة داخل المجتمع النجفي والعراقي مهّد لبروز ظاهرة التنازع بين الموقفين «العرفاني» المتجذر في اللاوعي والمقدس، و «البرهاني» الذي راح يطلّ برأسه من خلال أفكار ومفاهيم مثل «كروية الارض»، وطرح تأثير التقنيات الحديثة بين الحلال والحرام، كما أنّ التجارة الحديثة، وخاصة مع الانكليز، هدمت الكثير من القناعات السائدة عن تحريم التعامل التجاري مع «الكفار» والانكليز.
ويمكن ان نلاحظ أن الشخصيات الروائية تتخذ ثلاثة مواقف متباينة، الموقف الأول هو الموقف العرفاني والديني الذي يتقيد بثوابت المقدس، والذي يمثله عدد من رجال الدين منهم المرجع الديني الاكبر الشيخ كاظم اليزدي والشيخ جعفر، وهو رجل دين مجتهد ومتصلّب وشقيق الشيخ مرتضى.أما الموقف الثاني، فهو الباحث عن الاختلاف والمغايرة والمتقبّل لنتائج التحديث في المجتمع، ويكاد أن ينطلق من قناعات «برهانية» وعصرية، ويمثله عدد من الشبان والادباء الشعراء ورجال الدين أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي وحسن ابن الشيخ مرتضى والشاعر محمد باقر الشبيبي والشاعر علي الشرقي، أما الموقف الثالث فيضم مجموعة كبيرة من البراغماتيين من ذوي المصالح التجارية والعقارات الزراعية الذين يفكرون بمصالحهم الطبقية، قبل كل شيء آخر، ومنهم الشيخ مرتضى نفسه وشقيقه عباس الاسدي والحاج عبد المحسن شلاش.