جواد علي كسّار
سأبدأ بواقعة قبل أن أدخل بإشكالية الموضوع، فقد انتشر خبر قيام الأجهزة المعنية بتعقيم صالات الجامعات والمعاهد الدراسية وأروقتها ومكاتبها، والمفروض أن تلقى هذه الخطوة استحسان الجميع، لكن ذلك لم يحصل إذ أثار أحد الدكاترة سؤالاً عن جدوى هذه العملية، ما دامت الصالات مقفلة والدراسة معطّلة، ورأى أنها مجرّد خطوة استعراضية أو مرتجلة، تهدر المواد المعقمة، التي يُفترض أن تُدّخر لحلقات مرتقبة أسوأ في مسلسل كورونا، وقد أيّده لفيف من النخبة في نقده.
تضعنا هذه الواقعة وعشرات غيرها في صميم الطابع الإشكالي لقضية كورونا، ولتفكيك هذه الإشكالية يمكن أن نُجمل عناصرها إلى وحدات أساسية، هي الدولة ومؤسّساتها المختصّة، والمجتمع وبنيته الثقافية وانعكاس ثقافته على المواقف الشعبية والسلوك اليومي للناس، والإعلام وأسلوب تعامله ويلحق به وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيراً تحليلات المثقفين ورؤاهم.
إذا بدأنا بالحكومة وأجهزتها فينبغي التحرّر من موقف الإدانة والتبكيت من دون سبب أو مبرّر سوى الاستصحاب، لأن الحيرى تلفّ حكومات العالم أجمع دون استثناء، من انتشر فيها الفيروس ومن يهدّدها، بعد أن وضعها جهلها بالفيروس وتركيبته ودورته أمام عجز كبير، ومن ثمّ لا يعقل أن تكون جميع هذه الحكومات مقصّرة، أو أن تُرمى بالإهمال جزافاً دون مسوّغ عقلاني، مهما قيل عن منشأ الفيروس وفي ما إذا كان طبيعياً أو معدلاً أو صناعياً!
بالانتقال إلى الجانب الاجتماعي، فينبغي أن نعترف بأن لكلّ شعب خصوصيته الثقافية التي تنعكس بنحوٍ مباشر أو غير مباشر، على نمط مواجهته للأزمة. مثلاً من الصعب على العراقيّ أن يتحرّر مرّة واحدة من أسلوب علاقاته الحميمية، فيترك بقرارٍ المصافحة والعناق والاقتراب من الآخر، حتى لو كان الخطر الداهم هو كورونا. والأخطر من ذلك أنه لا يستطيع الانفكاك بيسر من بُناه الثقافية الاجتماعية والدينية، من قبيل المشاركة في المناسبات الاجتماعية السارّة ومواساة الآخرين في أحزانهم، كما لا يسعه أن يترك بسهولة شعائره ومناسباته الدينية، لاسيّما الزيارات الكبيرة، التي بتنا في العاصمة بغداد، على أبواب واحدة منها هي الزيارة الرجبية.
يُخطئ من يظنّ أن هذه حالة خاصّة بالعراقي دون غيره من شعوب العالم، أو أن يختزل المناسبات بالجانب الديني وحده أو بالمسلمين دون غيرهم. على سبيل المثال باتت اليوم تقاليد وأعراف النوروز، تُنذر بتفاقم أزمات كورونا في إيران وأفغانستان وآذربيجان ومجمل جمهوريات آسيا الوسطى وجنوب تركيا وغيرها. أضف إلى ذلك الأعراف والتقاليد الوطنية والدينية والاجتماعية، في بقية بلدان العالم، والتجمهرات الرياضية والترفيهية والسوقية والسياحية.
عندما نصل إلى الإعلام، فنحن نشهد تداخلاً شديداً بين مهمته في التوعية والتحذير، والمجازفة بالسقوط في هوّة التخويف وإثارة الاضطراب والهلع، يحتاج فيها الأمر إلى معيار مزدوج؛ إنسانيّ ومهني للتفكيك بين المهمتين. ما أؤمن به على مدار على أربعة عقود من العمل الإعلاميّ المتواصل، أن الفلسفة الأساسية للإعلام، تقوم على أساس بث الهدوء والسكينة في النفوس، وإشاعة الأمن النفسي للمجتمع.
أخيراً نترك وسائل التواصل الاجتماعي التي تستحقّ قصة منفردة، لنرفع كلمات وجيزة إلى ساحة المثقفين؛ برجاء أن يتخفّفوا بعض الشيء من غلالة الطابع النقدي الحاد، والعقلانية الصارمة، في أزمة مركبة بين العلم والأمن النفسي، إذ ما من نجاح مضمون لأي إجراء علمي، إلا بالمناعة النفسية!