مفهوم الأخلاق والفهم السوسيولوجي لماذا تصبح الاخلاق فائضة عن اللزوم؟

ثقافة 2020/03/11
...

د. محمَّدحسين الرفاعي
 
[I] 
تبتعد الأخلاق الحديثة عن ثُنائيَّة [الخير- والشر] بقدر ابتعادها عن أُحاديَّة التحديد الديني للأخلاق. أي أنَّها تبتعد عن هذه الثُنائِيَّة بقدر ما لا تكون محدَّدةً من قَبلَ الدِّينِ، حسبُ. فعلى ماذا تقوم الأخلاق الحديثة؟ وكيف يمكن أن تُصبحَ أخلاق ما قَبلَ الحداثة، في عالَم الإنسان الحديث، ضرباً من ضروب العبث الوجودي العميق بذاتِ نفسِهِ العميقة؟ تقوم الأخلاق على الفعل المجتمعيّ ومصادره. وللفعل اِتِّجاهان: نحو الداخل، ونحو الخارج. يتَّجه الفعلُ نحو الداخل بواسطة علاقةِ طَرَفَيْ ثُنائيَّة [الذَّاتِ- وذاتيَّةِ الذَّات (أي تلك التي تجعل، عند الفرد، كل ضرب من ضروب إمكان إنوجاده مجتمعيَّاً، أمراً ذاتيَّاً وممكناً)]. كما هو يتَّجه نحو الخارج بواسطة علاقة طَرَفَيْ ثُنائيَّة [الأنا- والآخر (أي المجتمعيَّة Societalization)]. 
[II]
يقوم الفعل على الفكر. وللفكر ضربان. ضرب ذاتي، وضرب موضوعاتي. ومن جهة أن الفكرَ نتاجٌ مجتمعي أو لا يكون، فإنَّ الضروب المختلفة لاِنتاجه، وبناء وإعادة بنائه، هي تنتمي إلى ضروب ثلاثة من المجتمعيَّة: 
I- المجتمعيَّة الآيديولوجيَّة Ideologic Societalization: التي تضع مضمون المعرفة المجتمعيَّة الشائعة داخل الدلالة الذاتيَّة، والهدف، والمعنى، والوسيلة لبلوغ الهدف، داخل الفعل. 
II- المجتمعيَّة اليوتوبية Utopian Societalization: التي تتضمَّنُ مضمون المعرفة التي تقع، في أغلب الأحايين، [على- الضِّدِّ- مِنْ- الآيديولوجيا] وتحاول تجاوزها داخل الدلالة الذاتيَّة، والهدف، والمعنى، والوسيلة لبلوغ الهدف، داخل الفعل.
III- المجتمعيَّة الديستوبية Dystopian Societalization: التي تتضمَّنُ مضمون المعرفة التي تتكيف، وتتواطأُ وتتصالح، في أغلب الأحايين، مع المعرفة الآيديولوجية، وتتسم بالواقعيَّة، وتُصبِح وسيلة لحجب المعرفة الآيديولوجية في الدلالة الذاتيَّة، والهدف، والمعنى، والوسيلة لبلوغ الهدف، داخل الفعل.  
[III]
وبناءً على ذلك، نكون مباشرةً أمام ثلاثة ضروب من ممارسة الأخلاق: أخلاق تقوم على الآيديولوجيا، وأخلاق تقوم على اليوتوبيا، وأخلاق تقوم على الديستوبيا. ففيما يمثل الضرب الأول من ممارسة الأخلاق المجتمعَ، في تاريخه، وتراثه، ومبادئه الأولى، يمثِّلُ الضرب الثَّاني من ممارسة الأخلاق الذهابَ نحو بناء [ما- ينبغي- أن- تكونـ - ـه- الأخلاق]، فيمثِّلُ الضرب الثَّالث من ممارسة الأخلاق، تطابقاً سلبيَّاً مع الواقع الواقعيّ، ومعادلاته الأكثر قوَّة في تهديم، وإعادة تهديم الذَّات. 
[IV]
فإذا قام التَّساؤل: لماذا تُصبِح الأخلاق، في معنى [النموذج- المثال Ideal-Type] الذي من شأنها فائضةً عن اللزوم؟ نكون أمامَ إجاباتٍ مجتمعيَّةٍ- منطقيَّةٍ ثلاث:
I- تُصبِح الأخلاق الآيديولوجيَّة فائضةً عن اللزوم، فقط حينما تفقد الآيديولوجيا المجتمعيَّة موقعَها، وقوَّتَها المجتمعيَّة. 
II- تُصبِح الأخلاق اليوتوبية فائضةً عن اللزوم، فقط حينما تفقد اليوتوبيا، عند مستوى الفرد، والمجتمع، معناها، وقوتها، وإمكان بناءِ مجتمع بواسطتها.
III- وتُصبح الأخلاق الديستوبيَّة فائضةً عن اللزوم، فقط حينما تنكشف الديستوبيا، عند مستوى المجتمع، في زيفها، واِنحطاطها، وخداعها للفرد، والمجتمع، معاً.
 [V]
... بَيْدَ أنَّهُ من جنسِ ماهيَّةِ الأخلاقِ أنَّه يُحدَّدُ بواسطة الإلزام. وفي عبارة أكثر صرامةً، كلُّ هذي الضروب تُمارِس ضرباً من ضروب الإلزام، حينما تنتقل إلى مستوى أن تكون معياراً وجوديَّاً تقوم عليه إمكانات الإنوجاد المجتمعيّ. 
فعلى سبيل المثال: إنَّ الدِّين، لأنَّه أصبح معيارَ معايير التحديد، إنَّما هو حينما يُحدِّدُ الأخلاق، هي تأخذ منحىً إِقصائيَّاً، يُصبح من يقع خارج الدِّين منحطَّاً. ولكن، حينما تُحدِّدُ الأخلاقُ الدِّينَ، يُصبح، هذا الأخير، أحد المصادر الروحيَّة لتحديد الأخلاق، ولا يكون كلَّها.
[VI]
...وحتى لا نقع في فخِّ التحديدات الآيديالِسمية للأخلاق، نحدِّدُ مصادر الوعي المجتمعيّ الذي من شأنها، ضمن أربعة محدِّدات لها، على أقل تقدير:
I- بِنية التنشئة المجتمعيَّة، اِنطلاقاً من مكوِّناتها، وعلاقات المكوِّنات داخلها، والوظيفة المجتمعيَّة التي لها، 
II- الروادع المجتمعيَّة التي من شأنها، 
III- ضروب الاِستبداد الديني الممارسة في المجتمع، 
IV- مفهوم الحُرِّيَّة، وممارسته مجتمعيَّاً، في المحطة الأولى من الفهم،  ومفهوم الحُرِّيَّة ذاتِ نفسِهِ، وممارسته فرديَّاً، في المحطة الثَّانية من الفهم. 
[VII]
...على ذلك، لا يمكن أن تقوم الأخلاق، في معنى [النموذج- المثال Ideal-Type] الذي من شأنها، من دون التواصل على صعيد الذَّات، ضمن المفاهيم المجتمعيَّة، والمعايير التي تنتمي إلى الحُرِّيَّة بوصفها مسؤوليةً ذاتيَّةً، وإلتزاماً ذاتيَّاً، وإلزاماً مجتمعيَّاً... إنَّها الضمير الأخلاقي للفرد من حيثُ إنَّه ذاتُ نفسِهِ العميقة، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ آخر.