أفلام المدينة الفاسدة

الصفحة الاخيرة 2020/04/01
...

علي حمود الحسن
 

قدمت السينما مئات الأفلام، التي تتخذ من "الأوبئة" موضوعاً أثيراً لها، لكنَّ القليل منها وظفته كرمزٍ ينفتحُ على أكثر من تأويل، يخص تفكيك حضارتنا وسقوطها، والمفارقة إنَّ معظم هذه الأفلام، التي تُسوق بطريقة مشوقة ومثيرة تنتمي الى سينما الرعب والخيال العلمي، وبعضها يصنف ضمن أفلام الديستوبيا (المدينة الفاسدة)، التي غالباً ما يكون أبطالها آخر البشر الناجين من الحروب والأوبئة، كما في تحفة المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون "أطفال الرجال" (2006)، الذي تدور أحداثه في العام 2027، حيث يعم العقم البشريَّة، بعد حروبٍ وأوبئة وخروج وحوش الذكاء الاصطناعي عن السيطرة، فيحاول ناشطون من أجل مستقبل الإنسانيَّة تهريب امرأة سوداء حامل الى مكان آمنٍ ليضمنوا تناسل البشر.
أفلامٌ أخرى تنبأت بأحداث وكوارث تحققت في ما بعد، بشكلٍ يكاد يكون متطابقاً، على شاكلة الفيلم الأميركي "الدفاع الأفضل" (1984) للمخرج ويلارد هيك، ومن بطولة الممثل إيدي ميرفي، وفيه نرى سيناريو دخول نظام صدام الى الكويت واحتلالها، ثم إخراجه منها من قبل القوات الأميركيَّة، والفوضى التي اجتاحت بلاد الرافدين، وفيلم ستيفن سودربرغ "العدوى" (2011)، الذي تنبأ بفيروسٍ كوني يشبه الى حدٍ ما "كورونا"، يظهر من الصين عن طريق خفاش، وينتشر في أميركا والعالم، حاصداً الأرواح من دون إنتاج لقاح مضاد له، فيكافح الأطباء والعلماء لاكتشاف اللقاح وينجحون بعد تجارب مضنية، وكل هذا ممكن أنْ يكون طبيعياً، لولا تطابق سبل الوقاية والخطوات المتخذة وأعراض المرض، مع ما يحصل في كوكبنا الأرضي الآن، وهذا ما أثار جدلاً ورجح وجهة نظر أصحاب المؤامرة.
مخرجون آخرون (مفكرون) تناولوا الأوبئة كثيمة مهيمنة على سرد قصصهم، ليس لذاتها، إنما بمحمول رمزي يشير الى تهرؤ نظام، أو سقوط طبقة اجتماعيَّة، نتيجة تناقضات حركة التاريخ العنيفة، لكنها بمفهوميتهم تحمل إرهاصات ولادة جديدة، على الرغم من بؤس وسوداويَّة مكان الأوبئة وزمانها، وهذا بالضبط ما نراه في اثنين من أهم الأفلام الكلاسيكيَّة، التي تناولت وباء الطاعون الأسود والكوليرا، وانْ اختلفت رؤية صناعها وتباعدت سنوات إنتاجها؛ الأول رائعة المخرج السويدي انغمار بيرغمان "الختم السابع" (1957)، الذي يحكي قصة فارس يعود محبطاً وممزقاً فكرياً من الحروب الصليبيَّة في القرن الرابع عشر، فيجد بلاده موبوءة بالطاعون الأسود وعجز الناس عن إيجاد ما ينقذهم، فهم لا يملكون سوى التمائم والشعوذة، ويقتفي الموت (صوره بيرغمان على هيئة رجل يرتدي عباءة سوداء وبوجه أبيض شمعي) أثر الفارس وتابعه وأصدقاءه، يموت الجميع وينجو المهرج وزوجته وطفلهما فيغمر الضياء مشهد عودتهم الى الديار، بعد أنْ طغت الألوان الكابية (الأزرق، والرمادي، والأسود) على مسار شريط الفيلم.
والفيلم الثاني، هو "الموت في البندقيَّة" (1971) للإيطالي لوتشينو فيسكونتي، المقتبس عن رواية قصيرة بذات الاسم للروائي الألماني توماس مان، يحكي "الموت في البندقيَّة" قصة موسيقار ألماني (روائي في القصة)، مغترب يحس بوحشة روحه فتضيق به البلاد، فيختار البندقيَّة ملاذاً لروحه المثقلة بهاجس الأسئلة الكبرى عن الموت والحياة والجمال والقبح، يتخذ فندقاً يرتاده أبناءُ برجوازيي أوروبا وهم يتشبثون ببقايا طبقة آيلة للسقوط، يلتقي بفتى بولندي جميل فيجد فيه ملاذ روحه يلازمه كظله من دون أنْ يكلمه، فتنتعش روحه وينهمك بالتأليف، وفي حمى ملاحقته الفتى في أزقة المدينة وأروقتها يكتشف إصابتها بالكوليرا، فينوي مغادرتها مسرعاً، لكنه يبقى ليموت وهو يضحك، وبذا أعلن فسكونتي في معالجته لرواية توماس مان؛ موت البرجوازيَّة وانحلالها، وربما أشار بطرفٍ خفي لصعود النازية والفاشية بدلالة الوباء الأصفر، الذي اجتاح البندقيَّة.