ترتبط عافية المسارح بعافية البلدان التي تستقبلها وتعيش في أحضانها، كما ترتبط وبشكل وثيق وجلي بمكانة البلدان وفاعليتها ليس فقط في الحركة الاجتماعية وتداعياتها الاقتصادية وتناميها داخل تلك البلدان، بل بالحركة السياسية وحضورها على المستوى العربي وكذلك على المستوى العالمي، البلدان المتمكنة سياديا والمتحكمة في أنظمتها وعلاقاتها سياسيا وأمنيا والمنظمة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية سلوكا حياتيا وتبادلا مكتفيا ورخيا والآمنة في حواضنها وعمرانها، نجدها تحث الخطى في حركتها وتوسع تلك الحركة وانفتاحها انسانيا وترى مواطنيها متواجدين ومتحركين داخل بلدان العالم على سعتها وعلى جميع المستويات في التجارة والسياحة والاستثمار والتبادل الثقافي والفني وفي التحاور وعقد الاتفاقات والبروتوكولات في مختلف المجالات والانشطة.
أما البلدان المتعثرة والقلقة في أوضاعها الداخلية والضعيفة في بنيتها الامنية والسياسية، فترى ذات التعثر بيناً في علاقاتها وتحركاتها والتي تكون محكومة أحيانا بقرارات تأتي من خارج مجموعتها واملاءات تفرض من مواقع ذات هيمنة وتأثير بعيد عن محيطها ، كل هذا التشتت ينعكس سلبا على مواطني تلك البلدان وعلى طبيعة عملهم وعلاقاتهم وطموحهم، وبوصف المسرح كواجهة فنية وثقافية للبلد الذي تتواجد فيه وتؤثر في فعالياته ونشاطاته سلبا أو ايجابا وهو بدوره أي المسرح يمثل ويعكس ما يدور ويمور داخل الحاضنة التي تطوي عليه جدرانها والتي تكون غالبا بسبب اضطرابها وعدم استقرارها وارتباك موازينها ضاغطة ومحجمة لفعل المسرح وأهدافه، لذا لن نستغرب حين نشهد نكوصا بعد تقدم وتسطيحاً بعد عمق ، ولن نتعجب حين نرى في ذات الموقع الفني أناسا يعملون ضمن توجه محدد وآخرين يسبحون عكس التيار باتجاه فني ومعرفي جديد ومغاير، هذا الشد والجذب ما بين الطموح والمنفعة ينعكس بشكل أكيد وواضح على الحركة المسرحية برمتها، ومن ثم يكون التخبط والتراجع والبدايات المرتبكة بعد مغادرة التأسيس بحجة التغيير !! والحركة المسرحية العراقية مرت بمثل هذا الارباك بقدر الفوضى التي ضربت المجتمع العراقي وهزت العديد من الثوابت فيه، فتم الغاء وازاحة وهدم تقاليد وقيم وسياقات تحت ذرائع شتى، هذا التعثر والتوقف ومحاولات فرض بدايات جديدة مرتكزة على فراغ مرورا بافتعال الازمات المالية وشح الميزانيات المخصصة واهمال البنى التحتية والمرافق الفنية الاساسية كل هذه العوامل مجتمعة والتي حدثت بشكل ممنهج ومقصود زادت من حالة التعثر والتراجع لاسيما مع وجود توجهات جديدة ومفاهيم طارئة تحكمت بالمؤسسة الفنية والوزارة المعنية، ما مر على الفن والثقافة العراقية بعد العام 2003 والصدمة والذهول وبث حالة الخوف والتهديد والتلويح بقوائم الموت والتصفية والاقصاء خلخلت البنى النفسية والفكرية لدى العديد من المبدعين والفاعلين فمنهم من صمت وانزوى ومنهم من خرج والتجأ ومنهم من تزلف وارتدى ثيابا غير ثيابه وقناعا جديدا غير وجهه الحقيقي ومنهم من صمد وعاند وبقي يعمل بوعي العارف أن لا خوف عليه ما دام نظيف اليد سالم السريرة وحر الرأي، لذا ظهرت بعد الاحتلال تيارات متنوعة بالعمل المسرحي منها الديني ومنها التعبوي ولكن بشكل يناسب المفاهيم الجديدة التي سادت البلاد ومنهم من تعامل مع الموروث وهناك من لجأ للكوميديا السوداء وآخرون اتبعوا طريق العبث والاحتجاج والسخرية وقدمت تلك العروض في أماكن مختلفة من بغداد وعدد من المحافظات وقسم منها غادر اللعبة وتوجه الى الشارع أو «الكلريات» وداخل الاماكن المكشوفة وفي الساحات وشارع المتنبي، وظهرت أسماء حاولت أن تتصدر المشهد المسرحي مدعية الريادة والفتح والابتكار وهناك البعض من حاول أن يوهم نفسه والاخرين أنه جاء لاحياء المسرح العراقي الذي مات على حد وصفهم، اذ لا مسرح بعد مغادرتهم ارض العراق الى بلاد الغربة!!
ومنهم من عاد ليبدأ مع الاخرين حلما انقطع عنه وجاء لاجل احيائه مع أصدقاء وأحبة غادرهم مكرها ويعلم طول قاماتهم الابداعية ، المسرح العراقي بعد اعصار الاحتلال وقف العديد من رجالاته في حيرة من أمرهم، كيف يتعاملون مع هذا النهج الجديد والفوضى العارمة وغياب التقاليد وانهيار المنظومة الخلقية وتعملق التابوات الدينية والسياسية وتصاعد نغمة التخويف والتهديد والتكفير وابدال عسكرتاريا بأخرى جديدة ومتشظية الولاءات !!! لم يكن الطريق سهلا ولم يكن الامر عابرا، فكيف تعامل الفنانون والمثقفون مع تأريخ يحاول القادمون الجدد شطبه والغاءه وبين تراكم وخزين ونتاج معرفي وفكري يمثل انجازا لذوات وليس لجهة سياسية سابقة؟.
*كاتبة ومخرجة مسرحية