كان للسيد محمد باقر الصدر درس تحليلي استدلالي في الفقه يلقيه صباحاً، وآخر في علم الأصول يلقيه مساءً على ثُلة من طلاب حاضرة النجف الأشرف. إلى جوار هذين الدرسين وربما أهمّ منهما، هو درس يوميّ ثالث يُعقد في بيته عصراً، أقرب إلى الملتقى المفتوح، يشارك فيه الصفوة الممتازة من تلامذته والمقربين منه معرفياً.
انصبّت اهتمامات الملتقى البيتي على مادّة الفقه مدّة من الزمن، كما كانت تدور فيه مداولات حول القضايا الاجتماعية والسياسية، لكن ولمدّة سنة تقريباً ركز هذا الدرس على قضية من أبرز قضايا الحياة العقلية عند الإنسان، هي «الإدراك» عبر تحليل كيفية عمل الذهن البشري. الحقيقة أن هذه لم تكن المرّة الأولى التي تناول فيها الصدر هذه المسألة الفلسفية الكبرى على حدّ تعبيره، بل سبق أن فعل ذلك في كتابه «فلسفتنا» حين سعى في الفصل الأخير من هذا الكتاب، إلى صياغة مفهوم فلسفي يكشف عن حقيقة «الإدراك» وكنهه، لكن بتركيز متزايد على الصراع الناشئ بين التفسيرين الميتافيزيقي والمادّي، ليحسم النتيجة نهاية النقاش، لصالح المدرسة الميتافيزيقية.
ما الذي حصل للصدر حتى بادر إلى عرض نظرية الإدراك، لمراجعة جديدة في السنوات الأخيرة من حياته؟ الحقيقة لستُ أدري، وقد فشلت محاولاتي جميعاً في العثور على الإشكالية المستجدّة في عقل الصدر، لاستئناف النظر في
الإدراك.
لكنَّ الأكيد أنَّ ما يقارب السنة من عمر الدرس البيتي، أنفقه الصدر لهذه المسألة عرضاً وتحليلاً ونقاشاً، انتهت الحصيلة فيه إلى مئات الصفحات، كما أكدت ذلك شهادات جميع من حضر الدرس، بل يذكر الشيخ رضا النعماني أنه قام بتبييض ثلاثة دفاتر من المادّة التي كان الصدر يزمع إصدارها في كتاب، هو من آخر كتبه قبل أن تعاجله يد البعث
الآثمة.
سمعتُ السيد عمار أبو رغيف وقد تحدّث لي مرّات عن محاولة الصدر هذه، عن «الإدراك»، كما قرأتُ كلاماً عنها لتلميذ الشهيد الصدر المقرّب السيد محمود الهاشمي، وراجعتُ ملفها كاملاً في الجزء الثالث من الكتاب الموسوعي الممتاز: «محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق»، وناقشتها هاتفياً مع السيد كمال الحيدري قبل كتابة هذا العمود؛ لكن فشلتُ رغم هذه المحاولات كلها، لالتقاط الإشكالية المعرفية التي شغلت الصدر وضغطت على عقله، ودفعته لكي يوفّر لها جهداً علمياً مركزاً، حتى صارت آخر قضية اهتمّ بالتأليف عنها، أيام الحصار التي سبقت استشهاده المفجع.
من يعرف الصدر يعلم أنه لا يستكين ولا يستريح ولا يستسلم للأوضاع ولو كانت قاهرة، ففي عطلة دراسية قصيرة دوّن كتاب «فدك في التاريخ»، وفي مدّة عشرة أشهر أتحفنا بكتاب «فلسفتنا»، وفي غضون شهرين دوّن الحلقات الثلاث من كتابه الأصولي «دروس في علم الأصول»، وفي أيام معدودة كتب «الرسالة والمرسل والرسول» كمقدّمة لرسالته «الفتاوى الواضحة»، وفي برهة وجيزة خطّ الكتيبات الستّة التي كوّنت آخر آثاره: «الإسلام يقود الحياة»، لذلك ما كان متوقعاً من أبي جعفر أن يجلس في أشهر الحصار رغم قسوتها المميتة مستسلماً (وحاشاه) بل انكبّ على وضع الصيغة النهائية لكتابه عن نظرية الإدراك.
السؤال الأخير؛ هل أن أوراق هذه المحاولة قد صودرت من قِبل السلطات الصدامية الغاشمة، لكن ماذا بالنسبة لمن حضر الدرس الخاص وتابع نقاشات الصدر في القضية؟ ولماذا لم نسمع أحداً منهم يعرض لنا ولو صيغة بدائية لإشكالية
الموضوع؟