طاقة تخريب المكان

ثقافة 2020/04/07
...

 
ابتهال بليبل
 
لنفرض أنَّ الكل، قد أجمع على نبذ العزلة بسبب تفشي فيروس كورونا، فهذا النبذ الذي ولّد عند البعض حالة من التنمر، ربّما، لا يشكل عائقاً أمامنا لاكتشاف ثقافة أساسها علاقات جديدة بالآخرين، علاقات غير مألوفة ومشبوكة بين فلسفة الحياة والموت، إذ تنفتح فكرتها حول معرفة متكاملة تنصب في ذواتنا. 
أظن أنني أفكر بهذه الفلسفة هنا لا كمبدأ "لوغوس" بالحياة، ولا كمنتج "ميتافيزيقي" للموت، بل كطاقة تولّدها العزلة التي هدفها تخريب المكان داخلنا. 
عندما بدأنا بتنفيذ قرارات حظر التجوال والتي أهمها، ربّما، العزلة الذاتية كان علينا أن نمر بكل ما تستدعيه التكنولوجيا الحديثة في علاقاتنا بالعالم: متابعة الأخبار والأحداث، اتصالات صوتية، ودراسة عبر منصات الكترونية، وغير ذلك من الظهور اليومي على مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات مباشرة وتسجيلية، ولكن أصعبها كان يبدو في استعراض المعنى من ذلك. 
المعنى الذي لا يمكنني إيصاله، عادة، من دون التعثر بخراب المكان داخلي الآن، المكان المتشكل أخيراً من عزلة بدت مثل أحاديثنا الهادئة التي تتضارب مع وجود أغنية صاخبة.
يمكننا تخيل أنَّ أغنية صاخبة كيف تشوش أسماعنا عندما يتحدث المقابل ولا نفهم ما يقصده من معنى بشكل يناسبه، وكل ما نستطيع أنْ نفعله هو بالتركيز على حركة الشفاه وهي تطلق الكلمات ونبدأ التأويل.
التأويل هنا يعتمد على تجربتنا السابقة مع المتحدث. غياب هذه التجربة يجعل التأويل، ربّما، غير مفهوم أو بمعنى لا ندرك حقيقته. نادراً ما أتذكر الشخص الذي يتحدث معي بمكان يعج بالصخب والضجيج وأبرر ذلك بأنَّ ما يقوله ليس بمهم. 
العزلة تفعل هكذا معنا الآن، تهدم حياتنا الداخلية التي سبقت ظهور هذا الفيروس بمعاول تبدو حادة لا نقوى على تجاهلها فيراودنا الإحساس بأنها تفرض علينا نسبياً نظرة لحياة جديدة. عندما تضعك بمكان لا يربطك به غير صوتك الذي يشغله لتؤكد وجودك، لتصبح مفهوماً، لتسيطر على مساحة متخيلة تقع بين حياتك وموتك.. ولكن قد لا تكون هي ذاتك أنت التي تعرفها، وكأنك تتقمص غيرها. في كل حالات العزلة سينتهي شيء ويبدأ غيره بالظهور.
طاقة العزلة تأخذ نهجاً، نمطاً آخر يتعلق بتفاصيل يومية، وعندما تسيطر عليها فكرة الصراع ما بين الحياة والموت ينجح الاستنفار، وكأنه محاولة للهرب نحو مكانين في اللحظة ذاتها، الأول يحتضر ويتحرك بضجيج أكوامه والثاني لا مرئي يتجدد بالأصوات والصور المتحركة وكأننا في لعبة الكترونية. 
الطاقة هنا ليست سلبية – كما يتصور الأغلبية- بل هي أفكار تدفعنا لنصدق ما لا يمكن تصديقه، أفكار تبدو هادمة لحقيقة الفناء، ولعلاقة الأنا والجسد، فنتقبل الصوت من دون فم أو حنجرة، والكلمات التي كُتبت بالأصابع عبر الرسائل الالكترونية وغيرها من دون حاجة لتخمين مشاعر كاتبها. الطاقة قد تأتي متشابكة بذاكرة ترفض الاندماج أو التناغم مع المشهد الجديد، فتتراجع بقوتها مبتعدة.. ويكفي الشعور بالكآبة لتخمين أنَّ المكان الجديد لا يتآلف بخبراته مع داخلنا.
بعد كل هذا الصراع تتفاجأ بأنك تختلف الآن عن ذاك الذي كُنته قبل عزلة الفيروس، لست أنت كما أنت، رغم أنك أنت فقط. أتذكر لأكثر من مرة كنت تريد أنْ تبقى بعزلة في منزلك كرغبة للابتعاد عن قسوة الحياة.. يمكنني القول إنَّ طاقة العزلة التي كنّا نسعى إليها قبل تفشي الفيروس تختلف عن الطاقة التي تطلقها عزلتنا الآن بعد هذا الفيروس، كالصوت العالق في مسافة ما بين الحياة والموت.