ما الذي فعلته العزلة بطرائق القراءة؟

ثقافة 2020/04/07
...

البصرة/ صفاء ذياب

لم يتمكّن أغلب القرّاء العراقيين من ملاحقة الإصدارات التي تصدر عن دور النشر العربية والعراقية بعد زيادة هذه الدور وسباق البحث عن العناوين المهمة التي تسعى كل دار لإصدارها. شكوى القرّاء لم تتوقّف من سنوات، فكلّما اقتنوا عناوين جديدة، صدرت عناوين أخرى قبل أنْ يسعفهم الوقت بقراءة الكتب السابقة، وهو ما يعلنه أغلب القرّاء، غير أن ما حدث خلال الشهر الماضي من اجتياح فايروس كورونا قلب المعادلة، فتوقّفت دور النشر عن إصدار عناوين جديدة، وفي الوقت نفسه منح الحجر المنزلي للقراء الجادين الوقت لقراءة الكتب التي اقتنوها خلال الشهور الماضية.
فما الذي غيّره الوقت الفائض، وبقاء في المنزل، من طرائق القراءة؟
 

خزانة مبعثرة
يبين الدكتور باقر الكرباسي أن العرب عرفوا عبر تاريخهم القديم بغنى نحتاجهم المخطوط وشغفهم للعلم والمعرفة وحرصهم على اقتناء الكتب، فقد قدّموا من المعارف والعلوم والفنون مصنفات غزيرة جعلتهم في مقدمة الأمم التي تؤلف وتقرأ ولا تطبّق، ومن خلال مقولة سمعناها من أشياخنا أن (مصر تؤلف ولبنان تطبع والعراق يقرأ)، أي أن العراقيين ليسوا بعيدين عن الكتب والقراءة، وفي الحال هذه أصبح لكل عراقي تقريباً مكتبة خاصة به، ولكل واحد اهتماماته، وعدم استقرار العراق منذ 1963 وحتى الآن، إذ ابتلي بحكام لا يفقهوا من الثقافة شيئاً، وكانوا وما زالوا ضد الثقافة والعلم والفن، واليوم والعالم كله يدخل مرحلة لم يعهدها من قبل، حجر صحي إجباري يلزم الجميع المكوث في المنزل، فحياة الإنسان أثمن شيء، ساعات فراغ لم تمر على العراقيين من قبل، فوجد صاحبي مكتبته مبعثرة كتبها وأوراقه مبثوثة هنا وهناك، أجاد صاحبي في ترتيب مكتبته وأفرغ خانة لكتب حديثة لم يقرأها وعمل جدولاً لقراءتها ورجع إلى أوراقه واكمل ما كان ناقصاً منها، إنّها ساعات طوال وقد تكون أيّاماً طوال أيضاً، بدأ يقرأ ويسجّل ملحوظات- وهي عادة تعود عليها مذ كان طالباً في الإعدادية- على الكتب التي قرأها لحد الآن وقد تعدّت الثلاثين كتاباً- حسب قوله- وبدأ يكتب المقالات وينشر، بالرغم من تغيّر منهج حياة البيت، لكنه توسّد كتبه وأوراقه تيمّناً بمقولة أحد الكتاب العرب: (كتبي أحب إلى نفسي من كل شيء فهي إكسير الحياة)، فالحجر الإجباري فعل بصاحبي هذه الفعلة الحسنة.
 
عزلتان
في حين يرى الشاعر إبراهيم البهرزي أن العزلة الطوعية تختلف عن العزلة القسرية كالفرق ما بين الصومعة والزنزانة الفردية، هناك إحساس بانعدام الحرية في الثانية مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك، وهذا من المؤكد أن يترك أثراً نفسياً له مفاعيله في عملية الاختيار. المعتزل قسراً كما في حالة الحجر الصحي قلق في العادة، وعن نفسي أتحدّث خاصة، وهذا القلق لا يشجّع على القراءات العميقة أو القراءات المنتجة لأنها تحتاج فسحة من التأمّل لا يمنحها هذا القلق، بل هناك إرادة لإضاعة الوقت بالتسلية، وربّما تكون التسلية المنشودة معادلاً لحياة الاضطرار التي يعيشها المحتجز صحياًّ كنت في العزلة الطوعية ألزم نفسي بقراءة كتب عميقة ومنتجة لأني أمنح نفسي بعد هذا الجهد معها فرصة لحرية التجوال والتأمل او التسلية بمجالسة الندمان، هذه الفرصة لا مجال لها الآن في العزلة القسرية، والحل لأجل أن لا تقتل نفسك بالتأمّل وسط أجواء مقبضة، الحل أن تكون القراءة تسلية لا غيرَ... هكذا تغيّرت عادتي في القراءة وصارت تسعى الى كتب خفيفة، ومن محاسن الأقدار أنّني جلبت معي من رحلة إلى مصر زوادة لمثل هذه الأحوال: مذكّرات لفنانين وفنانات، ممثلين وممثلات، مغنيات ومغنين وراقصات هكذا أتسلى بأيام الحجر القسري هذه في قراءة أيامهم!
 
عادات يومية
وبحسب الكاتب والمترجم حسن الصراف، فانْ تكون لديك خطّة للقراءة الجادّة والمعمّقة وأنت تخضع مرغماً لرتابة الحياة والعمل اليومي وشؤون العائلة فإنّها من دون شك من علامات نجاحك. ومن يخفق مثلي في تحقيق نجاح كهذا سيسعفه الحجر المنزلي الإجباري الذي يفرض التغيير على نمط الحياة. إذا كانت هناك فائدة تُذكر لجائحة كرونا العالميّة فإنَّ الانفراد بكتابٍ مميَّز لساعات طويلة إحدى هذه الفوائد. قبل الأزمة كانت أوقات القراءة والكتابة تتوزَّع بين القراءات الضرورية اليومية التي أجدها في المقالات الصحفيّة والعلمية والأكاديمية، واستئناف ترجمة النصوص التي أعمل عليها منذ مدّة، وكتابة ما يجول في خاطري عن الواقع اليومي ومشاركته مع الأصدقاء في صفحات التواصل الاجتماعي. ولكنَّ وباء كرونا قد فرض عُزلة مُحيّرة تدعو لمزيدٍ من التأمّل والتفكير في كلّ شيء: (الوجود، الفلسفة، العلوم التجريبية الحديثة، اللاهوت، التاريخ، الاقتصاد، السياسة، علم النفس وعلم الاجتماع وإلخ...) الفايروس المستجد الذي بعثر النظام العالمي يسهل عليه كثيراً بعثرة عاداتنا اليومية في القراءة والكتابة، وأن يثير عندنا الهلَع للإسراع في القراءة عن كلّ شيءٍ نجهله. برغم هذه الحَيرة فإني في أيام العزلة الاجبارية، إلى جانب تكثيف أعمال الترجمة، شرعتُ بقراءة كتابَي قصة الفلسفة ومباهج الفلسفة لويل دورانت، وأعجبني كثيراً حديثه عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا.
 
اتساع الأفق
من جانبه، يقول الروائي ياسين شامل، نحن الذين نحبُّ الحياة، وقد أغرمنا بجمال الوجود، حتى غرقنا في بحار الكتب، مستنفرين أشياءنا الحسّية في البحث عن كنهٍ جديد، كلّما توفّر لنا بعض الوقت، بعيداً عن مشاغل الحياة ومتطلّباتها، نختلي بأنفسنا، كي نرتقي بها ما أمكن الارتقاء في فضاء نحلّق فيه نحو التخوم، نبحث عن ما هو جديد في عالم الحلم الأوسع، عالم القراءة والكتابة.  
ها هي الحياة تفرض علينا ما لم يكن في الحسبان، إقامة طوعية تحت سطوة الحجر الصحي. إنها عزلة، قد لا تكون "عزلة الحمل في برجه"، طالما فكرت فيها، وحلمت ولو لبعض حين، ها قد طاوعتني أحلامي، برغم المأساة التي حاقت بالكائن البشري في كل أرجاء العالم.
في ليلي الطويل، ما بين الشاي والتدخين، مكتبتي عامرة. أجد نفسي منفتحاً على القراءة والكتابة، كلّما أقرأ كلّما يتسع الأفق، أقرأ مما أرغب فيه، وتتوارد الأفكار، أكتب بعضها، وأترك أخرى، متجاوزاً ما خطّطت له، ربَّما تأتي حصيلتها في الأشهر المقبلة بعد أنْ يحلَّ السلام والأمان في عموم الأرض على بني البشر.
 
خارج السياق
ويبين الكاتب أحمد جبار أن القراءة جزءٌ من الروتين اليومي لديّ، بل أعدها واجب التزم به إيّما التزام، وكأنّها أداء مقدّس. قبل الحجر كنت منغمراً بقراءة الدراسات النظرية الخاصة بموضوع أطروحتي، ومن حسن الحظ أني سلّمت الأطروحة كاملة قبل الحجر الصحي، وبهذا شعرت بفراغ رهيب ممزوج بحنين جارف لاستعادة متن (غابريال غارسيا ماركيز) الروائي الذي شرعت بقراءة رواياته من اليوم الأول للحجر، فلا شيء يسعفني، ويطهّرني من أدران الخوف، والقلق والرقب إلا الانغمار بعوالم سردية تنأى بي من هذا الاحتجاز القسري.