محمَّد باقر الصدر ووعي المعرفة العِلميَّة الحديثة بالمجتمع والإنسان
ثقافة
2020/04/08
+A
-A
د. محمدحسين الرفاعي
[I]
يغيب الموضوع العلميّ، ويغيب المنهج العلميّ، في علم المجتمع، عند المفكرين والعلماء والباحثين والطلاب والأساتذة الجامعيين، في البلدان العربيَّة، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي (الزمان الزماني).
ومع هذا الغياب، ينتقل العلم بالمجتمع والإنسان، من كونه بناءَ مفهوم العلمِ، وبناء الموضوع، وبناء المنهج في [التَّساؤل- والفهم- والتفكير]، وفي [إعادة بناء التَّساؤل- وإعادة بناء الفهم- وإعادة بناء التفكير]، إلى كونه يقع ضمن ثلاثة احتمالات على أقل تقدير:
. فإمَّا الصراع المعرفيِّ، القائم على الاختلاف الآيديولوجي، بين المفكرين والعلماء العرب، الذي يأخذ منحى ورؤية وفهم الآيديولوجيَّات السياسية في المجتمعات العربيَّة،
II - وإمَّا اللجوء إلى ثُنائيَّات مفبركة ومصطنعة داخل [حقل- العلم- بالمجتمع- والإنسان]، والبقاء ضمنها وضمن طَرَفَيْها، وممارسة الاحتمالات المنطقيَّة في [التَّساؤل- والفهم- والتفكير]؛ بالانطلاق من طرف من طَرَفَيْها، أو بالانطلاق من طَرَفَيْها معاً. ثُنائيَّات من قبيل: ثُنائيَّة [التُّراث- والحداثة]، وثنائية [الشرق- والغرب]، وثنائية [مفاهيمهم- ومفاهيمنا]، وثنائية [العلم- والدين]،...
إلخ.
. وإمَّا نقل المفاهيم، والموضوعات العِلميَّة، بواسطة الوصف والعرض والانتقاء الآيديولوجي، إلى الاكاديميات والجامعات، ونسيان الواقع المجتمعيّ وموضوعاته ونقله إلى زمان لا يتعلَّق بزمانه المجتمعيّ، أو إلى مكان لا يتعلَّق بمكانه المجتمعيّ.
[II]
غياب الموضوع، والمنهج، اللذان من شأن علم المجتمع والإنسان، في الفكر العربيّ الحديث، والمعاصر، في كل [المجتمعيَّات- المعرفيَّة]، من دون استثناء، يتضمَّنُ اختزالاً للواقع المجتمعيّ في جزء منه، أو اختزال العلم والمفاهيم العِلميَّة في بعض منه، وبعض منها.
وفي هذا السَّبيل، نجد العلم والعلماء والمفكرين في المجتمعات العربيَّة، في طور دائمٍ من البحث عن المبررات الآيديولوجيَّة التي تجعل من موقفهم الفكري موقفاً مبرَّراً على الصعيد المجتمعيّ، وقبل ضرورة أن يكون، موقفاً علميَّاً- عالميَّاً.
على ذلك، نتوقف لنتعرف على غياب الموضوع والمنهج في علم المجتمع والإنسان، داخل [المجتمعيَّات- المعرفيَّة]، بواسطة التعرف، وكيفيَّة التعرف إلى حضور [موضوع- العلم]، و[منهج- العلم]، في المجتمع والإنسان.
بأيَّةِ معانٍ يمكن أن نتساءل عن غياب [موضوع- العلم] ، وغياب [منهج- العلم]؟ وما الذي يتوهم الفكر العثورَ عليه بواسطة هذين الضربين من الغياب؟ وكيف يظهر ذلك في الكتابات والكتب العربيَّة؟
[III]
علينا أن نبني الإجابة عن التَّساؤلات العِلميَّة التي تخص الموضوع، والمنهج، في العلم، في كُلِّ مَرَّةٍ، ضمن ضرب من التفكيك البنيوي
Structural Deconstruction.
وإنَّ ذلك مهمةٌ قائمة برأسها، منذ نشأة المعرفة العلميَّة الحديثة بالمجتمع والإنسان؛ بواسطة ثُنائيَّة [بناء الفهم- وإعادة بناء الفهم]، التي تقع، لا محالة، وخلافاً لما يتصوره المفكر، والعالم، والأستاذ الجامعي، والطالب، والمثقف، العربيّ، قَبلَ ثُنائيَّة (النقد- والنقد
المضاد).
يشير الفكر الإسلامي، مباشرةً، وبموقف فكري واحد، وبإشكالات، وإشكاليَّات متعدِّدَة، تتنكر كلها برداء آيديولوجي واحد، إلى هذين الضربين من الغياب، على نحو صريح وواضح للغاية، حينما يجعل من العالَميَّة: [عالَميَّة- المعرفة - العِلميَّة] إشكاليَّة فكرية قائمة على رأس هرم الانشغال الفكري، والممارسات الفكريَّة، بعامَّةٍ، وحينما يفبرك [عالميَّةَ- المعرفة- العِلميَّة] ويجعل منها في صراع معرفي مع [خُصوصيَّة- المعرفة- العِلميَّة]. (يمكن متابعة ذلك من خلال النظر في كتابات ودراسات الإسلاميين بعامَّةٍ، من أمثال: محمَّد المبارك، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب، حسن البنا، ...
إلخ.
[IV]
ولكن ماذا تعني فكرة العالَميَّة: [عالَميَّة- المعرفة- العِلميَّة] بالمجتمع والإنسان في بلداننا العربيَّة؟ وعلى أي نحو تمَّ فهمها والإجابة عن تساؤلها الأصليّ من قِبَلِ محمَّد باقر
الصدر؟
إذا كان العلم، والنظريات والمناهج والمفاهيم العلميَّة، تقوم في كُلِّ مَرَّةٍ، على العالَميَّة، تلك التي تجعل من كل مفهوم، ونظرية، وفكرة علميَّة، مفهوماً ونظريةً وفكرةً عالميةً؛ ولا يمكن إلاَّ أن تقوم عليها، فإن موضوع العلم، ومنهج العلم، بالمجتمع والإنسان، إنَّما يقوم، ولا يمكن إلاَّ أن يقوم على
العالَميَّة.
إنَّ ما يُبنى على العالَميَّة، وفي عبارة واحدة: ما يُبنى ضمن [وحدة- موضوع- العلم- عالميَّاً]، لهو، في ضرب عميق من التَّساؤل عنه، وفهمه، والتفكير فيه، يُعيد بناء العالَميَّة التي من شأن موضوع العلم، في كُلِّ مَرَّةٍ يكون، ويظهر، ويأتي إلى مستوى الفهم.
وبذلك هو يعيد بناء المحطات المَنْهَجيَّة التي من شأن بناء الفهمِ The Understanding Construction بموضوع العلم.
وعلى ذلك، فإن موضوع العلم، والافتراضات والتصورات العائدة إليه، في كل تساؤل علمي مهما كان، لهو يتجه نحو كل خُصوصيَّة، لا من أجل أن تُصبح عالَميَّةً أخرى، بل هو يأتي بها إلى مستوى الرؤية والفهم والتساؤل الذي من شأن (عالَميَّةِ- موضوع- العلم ).
وعلى ذلك، مرَّةً أخرى، فإنَّ أي صراع معرفي قائم على [عالَميَّةِ- الموضوع]، من جهة، وعلى [العالميَّةِ- في- الموضوع]، من جهة أخرى، لهو صراع يحمل وجهين:
-1 الوجه الأول: بداهة عالَميَّة الموضوع، وبداهة العالَميَّة داخل الموضوع.
-2 الوجه الثاني: استبدال [عالَميَّة- الموضوع] بـ[العالَميَّةِ- داخل- الموضوع]، أي بعالمية قائمة على آيديولوجيا خاصَّة.
[V]
ولكنَّ ثَمَّةَ، داخل الفكر الإسلامي، و[المجتمعيِّ- المعرفيِّ- الإسلامي]، ممارسةً فكريَّةً أصليَّةً وضعت على عاتقها التوقف عند مستويات الفهم، والطبقات المختلفة التي من شأنه، داخل [حقل- عالَميَّة- المعرفة- العِلميَّة].
وذلك بواسطة التمييز الصارم بين طَرَفَيْ ثُنائيَّة [العلم- والدين] والتوقف طويلاً عند تفكيك كل طرف من الطرفين، والعلاقة المنطقيَّة- العِلميَّة التي من شأنهما.
وبذلك هي أعادت موضوع العلم إلى العلم، وأعادت منهج العلم إلى العلم، وموضوع الدين إلى الدين، ومنهج الدين إلى الدين. وهي محاولة محمَّدباقر الصدر، في التمييز الصريح بين المذهب والعلم (أنظر: الإسلام يقود الحياة- المدرسة الإسلامية- رسالتنا، والمدرسة الإسلامية، واقتصادنا).
[VI]
يقع المنهج، وتقع المحطات المَنْهَجيَّة في فهم [موضوع- العلم]، في الممارسة الفكريَّة لمحمَّد باقر الصدر ضمن المحطات المَنْهَجيَّة الآتية:
I- إعادة بناء التَّساؤل الخاص بعلم الاقتصاد، وتمييزه عن التَّساؤل الخاص بالمذهب الاقتصادي.
II - التمييز بين المذهب والعلم، حينما يذهب إلى أن المذهب (أي المذهب الإسلامي) في العلم (أي علم الاقتصاد) شأنه شأن المذاهب الأخرى (أي الرأسمالية، والماركسية) في العلم.
III- فهم المذهب بوصفه ينظِّم الحياة المجتمعيَّة، بواسطة رسم الخط الفاصل بين علم الاقتصاد، والمذهب الاقتصادي في علم الاقتصاد، وفي علم المجتمع.
IV- وضع أسس لمذهب جديد في علم الاقتصاد بتوضيح العناصر والمكونات النظريَّة في المذاهب الأخرى (الرأسمالية، والاشتراكية،... إلخ)، ومحاولة فهمها ونقدها نقداً علميَّاً يفكك العناصر فيها، وإعادة بناء الفهمِ بها.
V- وضع الدين ضمن [حقل- الفهم] الخاصّ به، وتمييز مهمة الدين عن مهمة العلم.
VI- الكشف، بواسطة هذا التمييز، عن الصراع بين المذاهب الاقتصاديَّة العالَميَّة الأخرى في العلم، ومحاولة بناء بديل إسلامي يتجاوز المذاهب الأخرى، أو على أقل تقدير، هو يسير، داخل حقل العلم، بموازاة المذاهب
الأخرى.
إنَّه المنهج، انطلاقاً من تفكيك بنيويٍّ عميق للمعرفة العلميَّة الحديثة، يستند إلى إبستيمولوجيا الاقتصاد، الذي يبني العناصر والمكوِّنات الأساسية- التي تُسهم في بناء معرفة علمية ببنية الاقتصاد، في المجتمعات العربية- الآتية:
I- الفصل بين المعرفة العلميَّة الحديثة، وبين الدين، والمعرفة الدينية.
II- بناء الوعي العلميّ بالمدارس الاقتصاديَّة المختلفة داخل علم الاقتصاد ومحاولة تفكيك العناصر النظريَّة والمنهجيَّة فيها، من أجل تفكيك الصراع العلمي بينها.
III- الانطلاق من الواقع المجتمعيّ العربي- الإسلامي (الواقع الذي يبنيه الدين) في بناء مذهب اقتصادي يخص المجتمعات العربية الإسلامية، ولمجرَّدِ غياب إسلامية الواقع، تغيب إسلامية العلم به.
-4 وعي التمييز، وتفكيك التمييز بين عالَميَّة علم الاقتصاد، وبين خصوصية المذهب الاقتصادي.
[VII]
ومع هذه النتائج التي توصل إليها الصدر، وتم تبيانُها في كتاباته التي وضعت [الخُصوصيَّة- داخل- العالَميَّة]- ولم تفبركْ ولا هي اصطنعت إشكالات، وإشكاليَّات لا وجود لها في الواقع المجتمعيّ- التي من شأن المعرفة العلميَّة الحديثة بالمجتمع والإنسان، ولم تضع [الخُصوصيَّة- في- وجه- العالَميَّة]؛ وصلت نظريَّته في الاقتصاد، والمذهب الاقتصادي، والمعرفة العِلميَّة بالمجتمع والإنسان، إلى تمامها. ولكن ما هي العقبات المعرفيَّة، في النظريَّة التي بناها، والتي حالت دون أن تصبح النظريَّة نظريةً علمية عالَميَّة تعي موضوعات المجتمع والإنسان، ضمن تخصيص لموضوع العلم، ومنهج العلم في المجتمعات العربية؟ إنَّها
الآتية:
I - العقبة المعرفيَّة الأولى: اختزال الواقع المجتمعيّ العربي بالواقع الإسلامي منه. والحال أن الواقع المجتمعيّ العربي يتضمن التعدُّدَ والاختلافَ والتنوُّعَ بين المجتمعيَّات العربية داخل المجتمع العربيّ
الكُلِّيّ.
II - العقبة المعرفيَّة الثانية: الخلط بين المذهب، وبين الآيديولوجيا. فإذا كان المذهب يقوم على الدين، دين بعينه، فإن الآيديولوجيا ذات أصول مجتمعيَّة هي تقوم على الحركة الدائمة في الواقع المجتمعيّ.
فإذا كان المذهب يتوفر على ثبات نسبي، فإن الآيديولوجيا تتوفر على تغيُّرٍ وتبدُّلٍ وتحوُّلٍ نسبي.
III - العقبة المعرفيَّة الثالثة: الخلط بين وظيفة العلم العلميَّة، وبين وظيفة العلم السياسيَّة. فإذا كانت المعرفة العلميَّة ذات وظائف وتوظيفات سياسية بعينها، فهي، شاءت أم أبت، تتحول إلى معرفةٍ قائمة على الهَويَّة المجتمعيَّة التي انطلقت منها، وتضمنتها، لا تفضي إلاَّ إلى الاختزال، والانتقاء. وبالتالي هي تخرج عن الكُّلِّيَّة التي لا بُدَّ من توفُّرها في أية معرفة علمية، مهما
كانت.
IV- العقبة المعرفيَّة الرابعة: على الرغم من أن الآيديولوجيا الدينية يمكن أن تبني مذهباً اقتصاديَّاً، لكنها لا يمكن أن تبني ذلك إلاَّ حينما يكون المجتمع مجتمعاً مغلقاً على العالَميَّة، ولا يكون إلاَّ مجتمعاً مثاليَّاً.
ومن ناحية أن أي مذهب يتوفر على يوتوبيا تخصُّه، فإن المذهب والحال هذه، لا يناقش، ضمن العلم، أي علم من علوم المجتمع والإنسان، إلاَّ ضمن المستقبل.
هو يبني المستقبل، على ماضيه. وما يحدث لحاضر موضوع العلم ليس غير الغياب التام له، ولظهوره، ولحضوره. وذلك عائد إلى أننا أمام رجل دين، في الدرجة الأولى من الفهم، وأمام رجل علم، في الدرجة الثَّانية من الفهم، وأمام فيلسوف، في الدرجة الثَّالثة من الفهم: فهم ممارسته المعرفيَّة
الأصليَّة.
ووظيفة كل موقع من المواقع المعرفيَّة هذه تختلف، أشدَّ الاختلاف، عن وظيفة الموقع
الآخر.