جواد علي كسّار
صحيح ان كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» جاء لمعالجة إشكالية معرفية، ترتبط أساساً بالشقّ الاستقرائي من المنطق الأرسطي، لكن الصحيح أيضاً أن السيد الصدر لم يكن معنياً بمحض المعالجة المعرفية لثغرة المنطق الاستقرائي، وحركته الاستدلالية من الخاص إلى العام، كما في قولنا «إن هذه القطعة من الحديد تتمدّد بالحرارة، وتلك أيضاً» إلى أن نخلص لنتيجة مفادها القاعدة التي تنص «إن الحديد يتمدّد بالحرارة». إذ من الواضح أن أيدينا كبشر لم تقع على جميع قطع الحديد الموجودة، ومن ثمّ قد نعثر على قطعة لا تخضع للقاعدة، ما دعا أرسطو وأنصار المنطق الأرسطي، للتحفّظ على الدليل الاستقرائي، من زاوية انه لا يعكس اليقين الكامل بالمعنى المنطقي. عالج السيد الصدر هذه الثغرة من خلال حساب الاحتمال في ما أطلق عليه بالمنطق الذاتي، هذا المنطق الذي ينتهي بنا إلى اليقين الناشئ عن الاطمئنان، وهو ما يكفي في تسيير الحياة من خلال إدارة العلوم كافة، بمنهج الاستقراء؛ منهج الملاحظة والتجربة الذي تستند إليه جميع معارفنا في العلوم الطبيعية. ما كان يقصده السيد الصدر من هذه المعالجة، ليس الممارسة المعرفية وحدها، بسدّ ثغرة المنطق الاستقرائي، بل اقتناص الثمرة العقائدية لهذه المعالجة، باكتشاف أساس منطقي مشترك يوحّد بين العلم والإيمان. وهذا ما أكده في الكلمة الأخيرة من الكتاب بعد خمسمئة صفحة من البحث والدراسة والتحليل، حين انتهى إلى القول نصاً: «هكذا نبرهن على أن العلم والإيمان، مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن من وجهة النظر المنطقية للاستقراء، الفصل بينهما» (الأسس المنطقية، ص 578). معنى هذا الاستنتاج ببساطة شديدة، أنه ليس بوسع الإنسان المعاصر أن يؤمن بمعطيات العلم الحديث، ويرفض الإيمان بالله سبحانه، أو أن يؤمن بالله سبحانه ويدير ظهره للعلوم المعاصرة، بسبب استناد الاثنين إلى القاعدة المنطقية نفسها، وتوحدهما بالمنهج الاستقرائي، وبذلك فالإنسان ليس مخيّراً بينهما، وإنما هو بين أمرين:«إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككلّ، وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع، نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي» (الأسس، ص 577). أجل، هذه هي القيمة الجليلة التي كان يرجوها الصدر من دراسة الأسس المنطقية للاستقراء، وإعادة الاعتبار للدليل الاستقرائي؛ وهي بلا ريب غاية تنسجم مع موقعه كعالم دين في حاضرة النجف الأشرف، ومع دوره الديني بفتح عقول الناس وأفئدتهم، على أبواب السماء، وهدي الرسالات النبوية؛ حيث يعبّر عن هذه الغاية والمبتغى، بقوله: «تبرهن هذه الدراسة في نفس الوقت، على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية، وهي الهدف الحقيقي الذي توخينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة» (الأسس، ص 577). لكن إلى جوار هذه القيمة العقدية الإيمانية النفيسة للأسس، يغامرني دوماً إحساس بمعطىً آخر لا يقلّ ضرورة عن المعطى الإيماني، هو فتح أبواب التقدّم أمام العالم الإسلامي على غرار ما حصل للغرب. فلو أخذنا فرانسيس بيكون (1561ـ 1629م) كدالة عظمى على دخول أوروبا عصر النهضة، فنجد أن ذلك حصل من الوجهة المعرفية، بقطيعة مع المنطق القياسي، واستلهام بلا حدود للمنطق الاستقرائي؛ والسؤال: لماذا لم يحصل ذلك في بلادنا؟ ولماذا لم نستثمر في «الأسس» هذه الوجهة والمسار، وبقينا جامدين على المعطى العقائدي وحده؛ هذا إذا كنا قد أفدنا عقدياً من «الأسس» فعلاً؟!