رحيلُ فيلسوف العمارة العراقيّة

ثقافة 2020/04/11
...

حسن جوان
 
تلقت الأوساط المعمارية والثقافية يوم الجمعة العاشر من نيسان نبأ رحيل المعمار العراقي الكبير رفعة الجادرجي، ابن بغداد وشيخ المعماريين العرب عن 94 عاماً حافلة بالعطاء، تاركاً إرثاً معمارياً مؤسِّساً في الذاكرة العراقية والعالمية. رفعة الجادرجي معماري وفنان تشكيلي عراقي ولد في 1926 في مدينة بغداد، حصل على جائزة أغاخان للعمارة في عام 1986 وهو أحد الشركاء في مكتب الاستشاري العراقي الشهير في بغداد

حُكم على الجادرجي إبان الحكم الغاشم بالسجن المؤبّد عام 1978، ثم أُفرج عنه بعد عشرين شهراً، ليخرج من السجن بثلاثة كتب؛ هي: "شارع طه وهامر سيمث" و"الأخيضر والقصر البلوري" و"جدار بين ضفتين". وكلف بعد ذلك، بمنصب مستشار لإعادة إعمار بغداد،  ومن أعماله مبنى الاتحاد العام للصناعات ومبنى نقابة العمال والبدالة الرئيسة في السنك والبرلمان العراقي. وله أعمال فنية أخرى، فهو المصمم للقاعدة التي علق عليها الفنان جواد سليم نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد، كما أنه قام بتصميم نصب الجندي المجهول الأول في الستينيات من القرن العشرين في ساحة الفردوس.
تأثرت أعمال رفعة المعمارية بحركة الحداثة في العمارة، ولكنه حاول أيضا أن يضيف إليها نكهة عراقية إسلامية، معظم واجهات المباني، التي صممها مغلفة بالطابوق الطيني العراقي وعليها اشكال تجريدية تشبه الشناشيل وغيرها من العناصر التقليدية، إن رفعة الجادرجي قد وصل بالعمارة التقليدية "التحدارية" كما يطلق عليها إلى المستوى الشكلي التجريدي، فأصبح ينظر إليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجردة حسب مفهومه، لكنه لم يتعامل مع الفراغ المعماري بتلك النظرة التحدارية أو بتلك الخلفية التقليدية، فعندما نشاهد مساقطه الأفقية نجد أنها في كثير من الأحيان تكون مساقط أفقية مستوحات من الحداثة.
للجادرجي العديد من الكتب حول العمارة ومعظم كتاباته في التنظير المعماري، وقد حاول النظر إلى التركيبة الاجتماعية- العمرانية في العالم العربي، من كتبه "شارع طه وهامر سيمث" و"الأخيضر والقصر البلوري" و"جدار بين ظلمتين" ملف 12 أجية لرسوم معمارية، 1985، ملف 8 أجيات لتصاوير كامل الجادرجي، 1985. مفاهيم ومؤثرات، التصوير الفوتوغرافي لكامل الجادرجي، حوار في بنيوية الفن والعمارة، 1995، المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار، أو المعمار المسؤول، 1999، نشر خاص بالاشتراك مع نقابة المهندسين، بيروت، لبنان، مقام الجلوس في بيت عارف آغا، دراسة أنثروبولوجية، وغيرها من الدراسات والبحوث في الثقافة المعمارية.
 
بين ظلمتين
في كتابهما "جدار بين ظلمتين" يروي رفعة الجادرجي وزوجته بلقيس شرارة محنة سجنه إبان السلطة الغاشمة لنحو عشرين شهراً في أواخر عهد أحمد حسن البكر، كتب الجادرجي روايته عما عاناه داخل السجن، وكتبت بلقيس مراحل الانتظار المرير خارجه، يروي الجادرجي وهو يستذكر ظروف محنته تلك وتدوينه وزوجته ضفتي تلك الظلمة السحيقة:
تعرّضنا، نحن وعائلتنا وأصدقاؤنا لمحنة دامت عشرين شهراً، كانت تجربة قاسية ومحنة لا يمكن للذاكرة أن تتغاضى عنها وتنكرها، وبعد أكثر من خمس عشرة سنة، قررنا أن ندوّن تلك الأحداث، لكي لا تضيع في متاهات النسيان والزمن، في أحداث تلك المحنة كان يفصلنا جدار غير قابل للاختراق، جعل كلاً منا في ظلمة بمعزل عن الآخر، لذا قرّرنا أن يكتب كل منّا من موقعه من ذلك الجدار الذي فصلنا، لم نقدم على تحريك كلمة "الظلمة" التي جاءت في عنوان الكتاب، فيمكن أن تُقرأ بدلالة معنيين: الظَّلم: الليل الشديد الظلام، وظَلِمَ: أظلم الليل وأسودّ، الظُّلْمة: ذهاب النور، بينما دلالة الظُّلم: ظَلَم، هي عدم الإنصاف، وانتقاص الحق، والجور.
فالظُّلمة دلالة على سلطوية النظام وانتقاص حق الفرد، ما يجعل حياة أفراد المجتمع ظلمة، شديدة العتمة والبؤس، لذا يتدخل المعنيان في تكملة متمّمة، فدلالتها هي ظلمة السلطة وعتمة الحياة.
سيرة بناء وهدم
كان رفعة الجادرجي مستشاراً في أمانة بغداد عام 1982 حين أُبلغ أن السلطات تعتزم هدم نصب "الجندي المجهول" الذي صممه ونفّذه في ساحة الفردوس، أخذ كاميرته وتعمّد أن تكون له صورة على الأنقاض مع المشرف على عملية الهدم، وقد وصفه لاحقاً بأنه "من الأشخاص الذين تميّزوا بقدرتهم على الهدم بطريقة فنية وبأقل التكاليف".
وعندما سُئل الجادرجي بعد أعوام عمّا تركته في نفسه تلك اللحظات التي هُدم فيها النصب الذي شكّل جزءاً من ذاكرة بغداد من أواخر الخمسينات حتى إزالته، فأجاب أن ما يؤلمه حقاً هو "عجز المجتمع العراقي عن الحفاظ على ذاكرته" 
 
في وداع الجادرجي
نعى الرئيس العراقي د. برهم صالح، الراحل الجادرجي بقوله:
"يفقد فن العمارة في العراق والعالم رئته الحديثة، التي تنفست حداثةً وجمالاً، لقد مارس الجادرجي العمارة بوصفها وظيفة إنسانية وجمالية، ووهبها كل حياته، عاملاً ومنظّراً، تاركاً الكثير لإرث هذه البلاد علماً ومبانيَ، لروحه الرحمة ولأسرته ومحبيه الصبر". 
وكتب البروفيسور المعمار خالد السلطاني على صفحته الشخصية :
"برحيل رفعة الجادرجي تفقد العمارة العراقية والعربية والاقليمة احد رموزها المهمين، الذي اثرى المشهد المعماري المحلي والاقليمي بروائع تصميمية ستكون لوقت طويل مدار اهتمام ودراسة كثر من المهتمين بالعمارة العربية والعراقية على وجه الخصوص ".
وداعا أيّها الصديق العزيز، وداعا رفعة الجادرجي! "
وقال الكاتب سهيل سامي نادر عبر بوست مفصل على صفحته جاء في بعضه:
"أنا أحد المعجبين بأعمل رفعة الجادرجي المعمارية، بل المحبين، وأمتلك تذكارات شخصية عنها، وأراها ، أحد المعالم الثقافية والفنية المثيرة في الحياة العراقية، ولأنني معني بالفن التشكيلي العراقي، وجدت أن رفعة الجادرجي هو النظير الفكري والثقافي لجدلية جواد سليم وجماعته البغدادية، وبسبب ثقافياته المركبة كان الأكثر تعبيراً عن هذه الجدلية التي تجمع ما بين الحداثة والتعابير المحلية، وتفاعلهما معاً، وظهور تجريبية منتجة منهما، قدّمت اقتراحاتٍ وحلولاً جمالية مثيرة .
أعتقد أن كلا من جواد سليم ورفعة الجادرجي فكرا، منفصلين، وكلا على طريقته، وتبعا لطبيعة عملهما والمواد المستخدمة، بإقامة منشأة ثقافية وفنية بغدادية أو عراقية، وأرى أن الاثنين اعتقدا،عن وعي ودراسة ، وتقديم أمثلة، بوجود طراز بغدادي أو عراقي جميل، فيه موحيات وتعابير هائلة، قابل للوصف،قابل للتطوير، وقادر على توليد عناصر ثقافية وفنية إذا ما درسناه بطريقة 
حداثوية . الاثنان بررا هذا المشروع، أو جسداه، بأعمال موحية، أفكر هنا بعمارة انحصار التبغ في باب المعظم، التي هي مشهد عريض مصغّر لمدينة أحلام تتكاثر فيه المداخل المقوّسة، حتى لا نعرف أين هو المدخل، ومسجد الكوفة لجواد سليم الكلي التجريد، الذي تجتمع فيه الأقوس والأهلة والأشكال الرمزية، كأنها مجمع كبير للقياسات الخاصة بمدينة أحلامه..ستبقى ذكرى الجادرجي عطرة."
 
ورثى الكاتب عبد الستار البيضاني فقيد العراق بقوله:
"فقدت الثقافة العراقية اليوم احد اهم رموزها ومبدعيها الكبار، فقد رحل الى جوار ربه الفنان والمعماري الكبير رفعة الجادرجي المولود في بغداد عام ١٩٢٦، بعد ان اسهم في تجديد الهوية المعمارية العراقية..وترك لنا الكثير من التحف المعمارية، التي شكلت جزءا مهما من صورة بغداد المعاصرة ومنها: قاعدة نصب الحرية في ساحة التحرير، نصب الجندي المجهول الاول في ساحة الفردوس، مبنى الاتصالات السلكية واللاسلكية في السنك، مبنى اتحاد الصناعات في ساحة الخلاني.. وغير الكثير من الابنية والنصب.. ومن اهم تجديدات الجادرجي في العمارة الحديثة هي مواءمته بين الطابوق البغدادي والكونكريت..كما في مبنى الاتصالات في السنك، يذكر ان رفعة الجادرجي هو ابن السياسي العراقي المعروف كامل الجادرجي وكان قد سجن في زمن النظام السابق، بشكل انفرادي مع زوجته بلقيس شرارة، قبل ان يطلق سراحه بطلب من امين العاصمة الاسبق سمير الشيخلي كما قيل، وقد كتب الجادرجي مذكراته في السجن الذي استمر ٢٠ شهرا وصدرت بكتاب عنوان "جدار بين ظلمتين" واسهمت زوجته بلقيس شرارة بكتابة فصول من الكتاب.. رحم الله المبدع الكبير رفعة الجادرجي وحري بالجهات الحكومية والمعنية بالثقافة والعمارة، ان تكون وفية له بالحفاظ على الهوية المعمارية لبغداد وتطويرها بما يلائم مكانتها التاريخية والمعاصرة"