حميد المختار
الجنون حالة اجتماعية وعقلية قادمة من التاريخ واللغة، مليئة بالحكايات التي تحكى على طول الزمان، فاللغة والكتب المقدسة تناولت مفردة جن، كما جاءت في القرآن الكريم (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً) وهنا تأتي المفردة لتوكيد إسدال الليل لستاره المظلم واخفاء الكائنات، ومن هنا سمي الجنين جنيناً لاختفائه وعدم رؤيته وكذلك سمي الجن جناً لأنهم غير مرئيين لاستجنانهم عن أعين الناس، وكذلك اخذت الجنة هذا المعنى لعدم رؤيتها، لذلك صار المجنون مجنوناً لغياب عقله، الطب المصري وطب بلاد مابين النهرين وحتى الاغريق ينظرون إلى الجنون بوصفه إلهاماً سماوياً او تلبساً شيطانياً، وقد ورثته المسيحية وصاغته صياغات جديدة وتبنته في العصور الوسطى وعصر النهضة بحيث شهدت تلك القرون حالات التعذيب والاعدامات الصادرة من المحاكم ضد المرضى العقليين وكانت هذه العصور قد زاوجت الجنون بين التلبس الشيطاني والوهم وسعار الجنون.
وكانت ثمة ممارسات وحشية ومهينة شهدتها المصحات العقلية في تلك الفترة، إذ جعلت السلطات من الاغلال والسياط أدوات لها، وأنا رأيت بأم عيني في فترة ثمانينيات القرن الماضي في مستشفى الرشاد في الشماعية هذه المشاهد المذلة للمرضى العقليين، كانوا يقادون بالكيبلات والعصي الغليظة إلى الطبيب المختص، يقول (ميشيل فوكو) :التحليل النفسي ليس حقيقة طبيعية لأنه بناء ثقافي، وعليه فإن كتابة دقيقة لتاريخ الجنون لن تكون رواية حول مرض ما وعلاجه وإنما ستكون كتابة عن مجموعة من الأسئلة حول الحرية والتحكم والمعرفة والسلطة، وادبياً فإن الجنون سيكون سمة من سمات الشاعر والكاتب وقد قال الكثيرون عن ذلك، منهم كاتب إيطالي
لا يحضرني اسمه قال: من منظور الطب العقلي فإن الفنانين والأدباء مضطربون عقلياً ولعلهم في حاجة إلى العلاج، وهناك من يسميها العبقرية، و(لاكان) يقول :الشعر خروج على العقل فهو خلل لغوي والخلل اللغوي لا يختلف عن الخلل العقلي، لأن بنية اللغة لا تختلف عن بنية اللاوعي، لذلك صار الشعر خروجاً على العقل وصار الشعراء مجانين، أما (رولان بارت) فيقول: أنا مجنون لأنني أعشق لكنني لست كذلك إذا افصحت، وقد نقلني هذا القول مباشرة إلى الحلاج، لأنه افصح ونطق فمات شر ميتة، حيث قال عنه ابو بكر الشبلي :لقد أخطأ الحلاج حين نطق وكان عليه أن يصمت، لذا اثر المتصوفة السكوت والخرس والتظاهر بالجنون لئلا يفصحوا عما يكنون في دواخلهم من هوس حتى أصبح الجنون طريقة جماعة سموا بـ(عقلاء المجانين)، لكن الجذب يختلف عن افتعال الجنون ومعناه ان الله وهو المعشوق يجذب العبد العاشق حتى يخلصه ويستخلصه لنفسه فيجذبه عن حاله في أمر الدنيا والآخرة، فإذا تعشق جذبه إليه ثانية وثالثة، اما فرجينيا وولف فتقول :استطيع ان أؤكد لكم ان الجنون تجربة رائعة ولا تستحق الازدراء، ومازلت أجد في حممها معظم الأشياء التي اكتب عنها، فهي تطلق كل شيء متشكل داخل المرء ويكون مكتملاً وليس في صورة قطرات كما في العقل السليم، وبعد عدة محاولات فاشلة في الانتحار تنجح اخيراً مقررة ان تموت غرقاً ومحققة بذلك حقيقة الجنون والهروب من الواقع
المزيف.