كورونا تقرّ لعبة تبادل الأمكنة: أليفة وموحشة

ثقافة 2020/04/13
...

البصرة/ صفاء ذياب
 
منذ بدايات الأدب العراقي، كان المكان بطلا رئيساً في أعمال أغلب الأدباء العراقيين، شعراً وسرداً، حتى ان عناوين الكثير من المجموعات الشعرية والقصصية والروايات مأخوذة من المكان... وهكذا كان البحث عن المكان بأشكاله المختلفة هاجساً مؤثراً في حياة الأدب والمثقفين، وبعيداً عن تسميات الدراسات السردية، وتقسيمه لمكان صديق وآخر معاد، أو مكان أليف مقابل المكان الموحش، فإن هذه النظرة تختلف بين زمن و آخر، بحسب المكان نفسه، والشعور تجاه هذا المكان..
وإذا أردنا أن نأخذ البيت، على سبيل المثال، فهو مكان أليف مقابل العنف الذي نراه في الشارع بسبب الضغوط واضطرار الوقوف بالزحام وتفاصيل كثيرة تجعله مكاناً موحشاً، لكن العزلة التي أجبرنا عليها، ربّما جعلت من البيت مكاناً موحشاً مقابل اللهفة على الخروج للشارع وأماكن العمل التي تحوّلت بسبب هذه الظروف إلى أماكن أليفة.. فكيف ينظر أدباؤنا لهذه الأماكن الآن:
 
مشاغبة الوصايا
يشير الكاتب والمهندس المعماري الدكتور أسعد الأسدي إلى أن البيت أليف في العادة، غير أنّه يصبح وحده أليفاً هذه المرّة، العالم من حوله هو الذي يزداد وحشية، جدار البيت، يصبح عتبة يتمنّى أحدنا أن لا يتعدّاها، وقد أصبح الخارج موبوءاً، يهدّد بخطر محتمل.
مضيفاً: العالم الفسيح لم يعد فسيحاً، بيتي وحده من يحوز الآن فساحة العالم، وقد توجّب علينا أن لا نغادر البيت، سوى حين نضطر إلى ذلك، طلباً لقوت أو حاجة لازمة... الغريب في المقولة صاحبة الهيمنة الآن، إذ إنك تخاف الخطر، عليك أن لا تخافه، الخوف سلاحك الذي ترغب فيه، يُسلب منك، حين تشاغبك الوصايا. إن الخوف من الخطر، يُضعف قدرتك على تحمّل واقعته، ليس ثمّة وحشية أشدُّ من أن تُمنع أن تخاف، في حال ترغب أن تخاف، ولم يعد متاحاً لك خارج البيت، سوى تلقّي وحشية العالم وعدوانيته، برعونة لا بديل عنها، الأمر الذي يجعل الزمن خارج البيت زمناً مذعوراً، يسابق الدقائق كي يلحق بأقرب عودة إلى البيت، ملاذ الأمن الوحيد المتبقي، شرط أن تتعرّى من بقايا الخارج الملوث.
 
أشواق
الكاتب والمترجم الدكتور علي عبد الأمير صالح يقول مع انه أحس في أول الأمر بالحزن لاضطراره الابتعاد عن أصدقائه وأحبائه، لكنه واصل سماع دبيب الحياة في مشاعره على الرغم من هذا الغريب الذي ظهر فينا وبيننا، وظل يصمم على أن يسلبنا كلّ ما ألفناه وعرفناه، إلا "أنني علّمتُ نفسي أن أعيش كلّ يوم من حياتي كما هو عليه، وأن أدع الأمل يتفتح في داخلي، مع إن بيسوا يسمي ذلك (لعنة العيش)... والحق أقول، مع إنني واصلتُ عملي كاتباً ومترجماً، إلا إنني أحسستُ أنني بتُ أقرب إلى أفراد أسرتي، وأنني بفضل كركرات أحفادي انتصرتُ عليه، أصبحتُ قادراً على أن أُقنع نفسي ببساطة ان شيئاً لم يحدث، وان الأحلام التي كانت تراودنا على الدوام ليست بديلاً عن حياة العزلة التي نعيشها". 
ويؤكّد صالح:  لا أشعر ان هذا المكان موحش، فقد كان أليفاً على الدوام، كما ان العالم الفسيح لم يغب عن ذهني، وقد ظللتُ أحمله بداخلي، غير انني كنتُ أعرف اننا بعد كلّ ظرف عصيب نُخرج كلَّ ما لدينا من أشواق، وحب، ونُهدي الآخرين الجمال والأمل والثقة بالمستقبل.
نصوص المدينة الفاسدة
ولم يتخيّل الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي يوماً أن يعيش تجربة السجن، مع عائلة مسجونة هي الأخرى، يسمى تحبباً (الحجر الصحي) وفيه لا نملك سوى بعض النوافذ نفتحها من أجل الشمس وبعض الاوكسجين ليس إلاّ، الأيام الأولى جرت بشكل 
طبيعي.. 
و"لكن مع مرور الوقت بات كسجن من دون جريمة أشعر بالاختناق، اختناق فعلي الى درجة لم أستطع أن أقاوم فكرة أن أظل إلى أشهر في هذا الحجر، ولكن ربّما الكتابة أنقذتني من الإحساس بالدفن حيّاً، وجاء المسرح كعادته ليكون الأمل في داخلي، ولأبدأ بعدّة مشاريع للكتابة المؤجلة ناهيك عن أفكار جديدة حفّزني لها وباء كورونا، ورحت أقرأ ما يحدث قراءة جديدة بمعنى ان أعيد صياغة الكثير من الأفكار محاولاً إسقاطها على هذا الحدث.. منطلقاً من فكرة الإنسان القزم، وأعني هنا (السلطة) بمعناها الدكتاتورية، أو تهديم فكرة الأقطاب في العالم، وسقوط مفهوم سباقات التسلح والأسلحة النووية أمام فيروس متناهٍ في الصغر استطاع أن يهزم تلك القوى، أو ما يسمّى بأقطاب العالم.. وهو هنا لا يتصادم مع أهمية التكنولوجيا في حياتنا، بل الخلل باستخدامها ضد الإنسان، لذلك شغلتني هذه الأفكار ورحت أرتّب وضعي للكتابة بشكل يومي حتى انني نسيت هذا السجن أو الحجر الصحي، وبدأت أفكر بشكل جدي أن أخرج بمشرح لكتاب كامل سنجد فيه العديد من النصوص التي وضعت عنواناً لها يسمى (نصوص المدينة الفاسدة) أو الديستوبيا، أي الحياة ما بعد الخراب.
 
جحيم الآخرين
في الوقت نفسه، لم يتخيّل الشاعر الدكتور مازن المعموري أنّه سوف يشعر بالجزع والقرف من غرفته أو بيته إلى هذا الحد, لدرجة أنّه التصق بالنافذة ليصبح وجهه مسطّحاً مثل كيس نايلون مائع. "كثيراً ما سحبت جفون عيني أمام المرآة لأرى الخطوط المتعرجة داخل البياض، حسبت عشرين خطّاً حتى جفّت فأغلقتهما, فتحت فمي باصبعي لأرى سقف حلقي, عسى أن أرى فيروساً عالقاً، لكن يبدو  أنّني ما زلت 
حيّاً".
ويضيف المعموري: لم أكن أتخيل ان الكتب مملة والأفلام طويلة جدّاً، بعد أسبوع من الحجر الذاتي في البيت, تساءلت: كيف يمكن أن يعيش الإنسان في زنزانة عشر سنوات وأكثر من دون أن يكون مجرماً وساديّاً أكثر من ذي قبل؟ 
كل فلسفات المكان سقطت الآن، وتحوّل عش الطفولة إلى زنزانة, وفي صباح الأسبوع الثاني خرجت مسرعاً إلى الشارع واحتضنت أوّل شجرة في الحدائق العامة. لا قيمة للحياة في جحر مهما كان جميلاً, لقد فهمت الآن ان البيت أو غرفة المكتبة التي كنت أتحيّن الفرصة كي أكون وحيداً فيها, لم تعد سوى محجر مغلق يجب التخلّص منه بأقرب وقت ممكن, لكنه الخوف من شبح الفيروس وهو يلاحقنا عبر التلفاز وأخبار مواقع التواصل الاجتماعي.
ويختم المعموري حديثه قائلاً: الآن أستطيع القول جازماً، ان الإبداع ابن الشارع، وجحيم الآخرين الذي طالما حذّرنا منه سارتر وغيره من الفلاسفة, وأصبح إيمانويل ليفيناس أكثر المفكّرين قرباً من حقيقة ما أعيشه كل يوم في هذا المخبأ الجميل بيتي.
 
تلوين الساعات
ولا ينكر الشاعر حسين المخزومي ان لهذا الحجر الصحي فضلاً علينا، لأنّه منحنا فسحة الالتقاء بمكتباتنا والتعرّف إلى تفاصيل غرفنا ومعرفة أخبار أصدقائنا. إن هذه السرعة التي كانت تسير عليها حياتنا كان لابد لها من وقفة إجبارية، لم نكن نريدها على حساب الموت، والآن لدينا من الوقت ما نستطيع به قراءة الكتب العالقة ومناقشة الأفكار المعلّقة وحتى المشاعر المرتبكة بسبب سرعة الحياة التي لم تمنحنا وقتاً لمعرفة سبب نضالنا فيها، ان هذا الحجر يذكّرنا بطفولتنا وكيف كانت أمهاتنا تمنعنا من مجالسة الكبار أو اللعب في الرماد خوفاً على صحّتنا وأخلاقنا... اليوم أصبحت أخلاقنا بخير، لكن صحتنا مازالت مهدّدة، إنّها فرصة لنا لمراجعة أولوياتنا وترتيب صفحات حياتنا.
وينقل المخزومي مقولة لريلكة في ذلك، ويعني ان ذاكرة الطفولة نبع تستطيع أن تنهل منه ما تريده من الأفكار وان كنت في سجن وبين الجدران... نعم، صار لدينا مزج بين الأيام حتى أصبحنا لا نعرف كيف وصلنا إلى هذا اليوم من الأسبوع، لكن ما الضرر إذا كنّا نثري هذه الأيام بشكل جيد؟
أمّا إذا كنّا نرى أن هذا المكان المحاصرين به موحشاً؟ نستطيع أن نخدع الجدران بأنها تحاصرنا ونرسم السماوات التي نريدها لفعل أشياء ذات معنى... المكان الموحش ليس مكاناً محدّداً داخل البيت أو خارجه، يكون المكان أليفاً كلما فعلتَ شيئاً ذا معنى، المكان الموحش هو الذي يُشعركَ بلا جدوى وجودك.. لا نستطيع تغيير الساعات، ولكننا نستطيع تلوينها بشكل يرضي نزعتنا للحرية المنزوعة في هذه المرحلة، من الممكن ان يُحاصر الجسد، لكن من المستحيل أن تُحاصر المخيّلة!