هدية حسين
مرت البشرية عبر تاريخها بكوارث وبائية حصدت الملايين، وكان السل والطاعون أبرز تلك الأوبئة حتى اكتشف العلماء علاجاً، واليوم يمر العالم بوباء الكورونا الذي هو أشد فتكاً، إذا ما استمر لفترة طويلة من دون علاج، فيروس لا حجم له يتنقل من بلد الى بلد ويثير الرعب، تتوقف عجلة الحياة، المصانع والمؤسسات والشركات الكبرى ويقبع الناس في بيوتهم، فتخلو الشوارع والساحات والمقاهي من روادها.
وقد استثمر الأدباء تلك الأوبئة فدونوا يومياتها في أعمال عبرت أزمانها لتحط في زمننا هذا الذي يشبه كثيراً ما مر به الناس في تلك الفترات العصيبة، وحتى نقرأ مستقبلاً أعمالاً عن كورونا فقد عدنا في هذه المقالة الى رواية (الطاعون) لألبير كامو، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1957 وكانت قد صدرت في العام 1947 وحققت أعلى المبيعات، وهي من بين أهم أعماله الأدبية.. الرواية من إصدارات دار الآداب وترجمة الدكتور سهيل
إدريس.
تدور أحداث رواية "الطاعون" في مدينة وهران الجزائرية، عندما كانت الجزائر مستعمرة فرنسية، حين اجتاحها الطاعون، وبدأ المرض يسلب الناس مباهجهم ويُفقدهم حياتهم، فأرقام الضحايا ترتفع يوماً بعد آخر، يموت اليوم عشرة، وغداً عشرون، ثم أربعة وثلاثون ويتزايد العدد في الأيام اللاحقة، قفزات مفاجئة أرعبتهم والتدابير الوقائية غير كافية، فتفاقم الوضع وأغلقت المدينة، لا أحد يخرج منها ولا أحد يدخلها، وكان الناس في البداية غير مكترثين يمارسون حياتهم كالمعتاد ويظنون ان المرض مؤقت لا يلبث أن يزول، حتى بدأت ضحايا الوباء بالتساقط، عندها، كما يحدث اليوم، انقسم الناس بين من يظن ان نهاية العالم قد أوشكت وان ما حدث ليس إلا انتقاماً سماوياً لبعد الناس عن الإيمان، وبين من يلتزم بأوامر الحجر بانتظار معجزة تأتي من اكتشاف علاج لهذا الوباء الخطير.
انفصل الناس عن بعضهم، لا زيارات، ولا لقاء عشاق، ولا سفرات ترفيهية ولا أماكن للتجمعات، فتحولت المدينة الى فراغات شاسعة لا يملؤها إلا المرض الذي يفتك بالجميع، وتساوى الناس في المحنة، فقراء وأغنياء، من هم في البيوت أو وراء القضبان، الكل محجور والكل معرض للمرض، عزلة مفروضة على الجميع اختلطت الأوراق ولم يعد للأحلام مكان سوى بالخلاص من هذا الوباء (.. والواقع ان المدينة باتت مقطعة عن سائر البلاد، من حيث المواصلات العادية، ونُشر قرار جديد يُحرم تبادل المراسلات خوفاً من أن تصبح الرسائل وسائل لنقل العدوى)
ص7 ..
توقفت الحياة تماماً، لا سفن تسير ولا سيارات ولا شاحنات، مات كل شيء بالطاعون، أما المشاعر فلم تكن بمستوى الكارثة (لم يكن هناك أحد بعد، قبِل بالمرض، وكان معظمهم شديد التأثر بما كان يزعج عاداتهم أو يمس مصالحهم، كان ذلك يضايقهم أو يغيظهم، وليست هذه المشاعر يمكن أن يُحارب بها الطاعون) ص80.. لذلك فحِرصُ الناس على التواجد في بيوتهم لم يستمر طويلاً، وهكذا بدؤوا يخرقون منع التجوال، ويتجولون في الشوارع، ويتواجدون في المقاهي وعلى الأرصفة، في ظل تداعي الحالة الصحية التي تتسارع بفعل انتشار المرض، وكما في كل الأزمات فقد استغل التجار هذه المحنة وبدؤوا يخزنون المواد الغذائية لرفع الأسعار في الوقت
المناسب.
أبرز شخصيات الرواية، الطبيب برنار ريو، وهو أول من لاحظ بدايات المرض قبل أن يتوصل الى أنه الطاعون، وذلك عندما بدأت الفئران الميتة تنتشر في الأماكن وقرب مداخل ومخارج البيوت، والصحفي رامبير الذي جاء من باريس قبل أن يحط الطاعون ليكتب ريبورتاجاً عن أحوال العرب في وهران، فعلِق في المدينة ولم يستطع العودة الى باريس رغم محاولاته المستميتة مع الطبيب ريو ليعطيه شهادة تثبت بأنه غير مصاب بالطاعون، لقد عاش أسوأ أيامه في وهران وهو يحلم بالمرأة التي يحبها والتي تركها في باريس، وكان يُواجه دائماً باعتذار الطبيب ريو، فحتى لو لم يكن مصاباً فقد يلتقط العدوى بين لحظة وأخرى، فبحث رامبير عن وسائل أخرى وهي مراجعاته للمسؤولين، ولكنها أيضاً لن تجدي نفعاً.
ومن بين الشخصيات المهمة، السائح تارو الذي يكتب يوميات عن المدينة قبل وأثناء كورونا، ومن خلال يومياته يسلط الضوء على الكثير من الحكايات، ويكشف عن نفسه وتاريخه الشخصي فيكون عنصراً مهماً في انفتاح الرواية على عوالم تزيدها وهجاً وتنقلها من رتابة أيام الطاعون وأمراض الناس.
ينحسر دور الفرد في زمن الأوبئة التي تفتك بالجميع، ويصبح الجميع أهم من الفرد، لذلك يعمل الطبيب ريو مع فريق من الأطباء على وسائل لحماية الناس، إضافة الى البحث عن علاج ينقذ المرضى، كن وحدك ولكن عندما يصبح مصير الكل في قبضة الموت فعليك أن لا تكون بمفردك، هنا تذوب الفردانية لصالح المجتمع، هكذا فكروا بعد أن مضت فترة عدم الاكتراث الى مواجهة شرسة بينهم وبين المرض، إذ لم تعد المستشفيات تكفي المرضى الذين يتزايد عددهم يوماً بعد يوم، والوفيات هي الأخرى تتزايد وليس من حل سريع ينقذ المدينة..
ومع كل ما بذلوه كانت شراسة المرض أقوى من جميع الإجراءات التي اتخِذت لدرئه، كل ذلك ترافق مع بروز الجانب الديني الوعظي للناس من قبل الأب بانولو الذي له مريدون كثر والذي كان ينظم الصلوات الجماعية للدعاء والاستغفار، وكان يوحي لهم (إن العظة قد زادت وعي بعض الناس لفكرة غامضة، هي أنهم كان محكوم عليهم من أجل جرم مجهول)ص103 أليس ما يحدث اليوم مع كورونا مشابه لما حدث أيام الطاعون؟
بقي لنا تساؤلات تخص رواية "الطاعون": لا ندري لماذا أغفل ألبير كامو السكان العرب في وهران؟ ولماذا لم يجعل شخصية الصحفي رامبير يواصل كتابته عن العرب في وهران؟ إننا لا نكاد نلمس أي حياة عربية لهذه المدينة في هذه الرواية، علماً أن وهران كما تقول المدونات لم تتعرض لطاعون في الفترة التي تناولتها الرواية، وكان الأجدر أن يختار ألبير كامو أي مدينة فرنسية لتدور الأحداث فيها، خصوصاً ان فرنسا كانت في تلك الفترة تحت الاحتلال النازي بما يجعل الطاعون رمزاً لذلك
الاحتلال.