لا أعني بها رسائل من العالم الآخر حرفياً، لكنْ، هكذا أرادها مخرج وكاتب سيناريو فيلم “المراسلة” (2017) الإيطالي جوزيبي تورناتوري صاحب “سينما برادايس”، الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1990، وبالعودة الى “المراسلة “ الذي حاول أنْ يقترب بشيء من التفصيل بما جرى في فيلمه السابق، يبدو أنه هاجس يتملك روح تورناتوري، فهي ذات الثيمة أيضاً في الفيلمين عبارة عن “رسائل تصل من العالم الآخر” ومن يرسلها إلينا أحبة عشنا معهم وعاشوا معنا، أحببناهم وأحبونا، فالمخرج يقدم لنا عبر إيقاع سينمائي هادئ حيناً وصاخبٍ الى حد الهوس والتوتر حيناً آخر، علاقة حب تربط بين عالم فيزياوي مع تلميذته الشابة ـ هناك فارق في السن لم يشر إليه الفيلم لا من بعيد أو من قريب ـ تؤدي دورها الممثلة “أولجا كورلكييبو”، إذ نفهم أنهما متحابان بشكلٍ جنوني منذ المشهد الأول، رغم كون الرجل متزوجاً ولديه أطفال، ولكنْ حالما ندخل في تفاصيل الثيمة الرئيسة التي أرادها المخرج، تطوف هذه التفاصيل وتبقى لازمة قاسية وحادة.
حينما يموتُ البطل بمرض السرطان، يؤدي دوره الممثل جيرمي آيروتيز ذو الكاريزما الغريبة المهيمنة على المشاهد، نراه يعدُّ العدة لكي لا تعلم حبيبته أنه مات، فهو يريد أنْ يبقى مهيمناً عليها حتى بعد موته، فيبدأ بالاعتماد على معارفه لإيصال رسائله الالكترونيَّة الى حبيبته وفق توقيتات تذكرها بمناسبات حياتها، كعيد ميلادها، أو موعد تقديمها الى الامتحان، أو زيارته لأمها.. كل هذا من خلال الحاسوب تارة وعبر الهاتف الجوال تارة أخرى، بوتيرة محسوبة بدقة عالم فلكي خبير، هذه الموهبة في الحساب ودقتها يضفيها على حياته ما بعد موته، ويستمر في إرسال الرسائل الالكترونيَّة والمرئيَّة عبر الوسائل المتاحة، وهي ميزة إخراجيَّة غريبة، فنحن نطالع وجه الممثل عبر الحاسوب، ومن خلال حوارات تتعلق بالحب وبذات اللحظة التي يكلف فيها أحد بإرسال باقة ورد أو تهنئة، يكون هو على الشاشة يخبرها بتسلم الرسالة، وهذه تقنية استخدمها المخرج ـ كمغامرة ـ لأنها ربما تصيب المشاهد بالملل، وقد حسب هذه القضية حساباً دقيقاً حينما أعطى “ما يشبه الباسوورد” كلمة معينة تكتبها عشر مرات إذا اشتاقت إليه، لكنها وربما كما أشرت أصابها الملل، ملل هيمنة الموت على الشاشة والحاسوب الجديد الذي اشتراه لها، فضلاً عن عشهما في المنتجع الإيطالي المطل على البحر، وفي لحظة تقرر إتلاف كل شيء، لكنها تندم وتستعين بخبير في محاولة منها لإعادة الملفات التالفة، فنراها تعود الى “الباسوورد” لتكتبه حينها تتوالى عليها الرسائل والأشرطة من رجلٍ ميت، يصرُّ على العيش معها أطول فترة ممكنة، وهذا ما أطلق عليه “غريزة البقاء حياً حتى بعد الموت” يجسدها عبقري السينما الإيطاليَّة “جوزيبي تورناتوري”.
الفيلم أثار فينا الكثير من التفاصيل الرائعة التي نحلم بها، أو لا نستطيع أنْ نحلم في تحقيقها لو قدر لنا أنْ نموت.