بؤس القدرية!

الصفحة الاخيرة 2018/12/18
...

 جواد علي كسّار
 
القدرية بمعنى نسبة كلّ شيء إلى الله مباشرة وتعطيل حركة الأسباب، لا تقوم دائماً على أساس فلسفي وانحياز ثقافي ومتبنى ديني، بل ترتبط بأزمات الواقع. هكذا يمكن لهذه الأزمات أن تهزم أكثر المجتمعات عقلانية وفردية وتفويضاً (بالمعنى الديني والفلسفي الذي يضع التفويض مقابل الجبر) وتقلب سلوكها رأساً على عقب، كما تفعل العكس في مجتمعات أخرى.
ينبغي أن ننتبه إلى ما يؤكده لنا منطق التجربة الإنسانية من أن مُلازم القدرية الاجتماعية في الغالب، هو الشمولية السياسية، ويصحّ العكس أيضاً: نظام شمولي سياسياً يعني مجتمعاً قدرياً.
عادة ما تُضرب الأمثلة على بشاعة القدرية الاجتماعية كحاضنة للاستبداد السياسي والشمولية المقيتة، من تاريخ الأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق والصين وكوبا، وفي العالم العربي من تجارب حكم عبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وغيرهم.
علينا أن نخشى من انتشار القدرية في المجتمع كخوفنا من شيوع الأوبئة والأمراض الفتاكة، لأن القدرية ما تلبث أن تشلّ المجتمع بعد تدمير الفردية في الفرد، فتوفر بذلك ضماناً أكيداً لديمومة التفرّد والاستبداد والديكتاتورية في السلطة وترسيخ الشمولية السياسية.
من تبعات القدرية الانحدار إلى تبخيس الفعل الإنساني والإرادي، والجنوح إلى الحظ بدلاً من التخطيط ومهارات الفعل الإنساني. ومن يعتزل قلما يفكر بالغد وبمستقبل الجماعة. هكذا تنخفض الشعوب والجماعات القدرية إلى الهامش بإهمالها السعي والتخطيط، لتعلو الشعوب التي تمجّد السعي في أبسط صيغه وتخطط لمراكمة أصغر الأشياء، انطلاقاً من الفردية والإيمان المفتوح بالإنسان.
وهذا لا يعنينا قدر ما تعنينا المظاهر الاجتماعية للقدرية، التي كثيراً ما تنشأ في أوساط لا تؤمن عقدياً بالجبرية الدينية. فالقدري من النمط الاجتماعي لا يشك بمجتمعه وحده، بل يشك قبل ذلك بنفسه، وهذا الانكسار في الذات وهزيمة الداخل، يتحوّلان إلى أساس لهزائم متداعية بل انهيارات يتلو بعضها بعضاً. على أن الأخطر من ذلك كله، أن القدريين لا يعوزهم التفلسف والتنظير، فهم كغيرهم من الاتجاهات والجماعات يصطنعون لأنفسهم أطراً دينية وفلسفية، ويضفون على نمطهم وخياراتهم ومواقفهم، تنظيراً "عقلائياً" يسوّغ سلبيتهم وانسحابهم من الحياة. وهذا أخطر ما في القدرية الاجتماعية.
إن الثقافة القدرية أطلت برأسها من جديد بين أغلب العراقيين وفي المجتمع العراقي عامة، تحت ذرائع أغلبها نفسي أو وجداني ناشئ من تجارب شخصية، معززة بمنتخبات من وقائع التاريخ، ونصوص مقدّسة غير ممحصة، معها إيحاءات مكثفة من دوائر متربصة بالعراق وشعبه في الداخل والخارج، لم تجد لمخططاتها ما هو أخصب من هذه الأرضية النفسية المتردية. والغريب أن يحصل ذلك كله بعد عقد ونصف من سقوط الطاغية!