بين الأدب والصحافة

ثقافة 2020/04/19
...

 
عفاف مطر
 
 
ما بين الكتابة الادبية والكتابة الصحفية اختلافات رئيسة، في مقدمتها  الاسلوب، إذ ان الكتابة الصحفية اخبارية في الدرجة الاولى، مباشرة في الطرح وخالية من المسحة الحسية الناتجة عن تعاطف الكاتب الصحفي مع القضية التي يكتب عنها أو رفضه لها فأهم مواصفات الصحفي الناجح الحيادية. لذا تخرج الفكرة ربما من عشرة صحفيين عن الموضوع ذاته، لا تتعدى في النهاية عن كونها فكرة اخبارية مجردة.
اما الكتابة بأسلوب ادبي فمختلفة تماماً، اذ تتضح مشاعر الكاتب سواء حماسه للفكرة او رفضه لها تتلمس ايحاءاته الموجهة نحو المنعطفات الخطية للقضية التي يطرحها من دون اللجوء لأسلوب المباشرة في الطرح.
الكاتب الصحفي يخاطب الرغبة الآنية بسهولة وسرعة، ويتفاعل معه القارئ أيضاً بسرعة وبشكل آني، وهذا مايسميه علماء الاتصال "المردود العاجل". 
القارئ العادي لديه القدرة على فهم ماهو مكتوب في الصحف واستيعابه بسهولة بصرف النظر عن قيمته . فهو لا يتطلب خيالاً وقدرة فكرية على الاستيعاب والفرز، أما الكاتب الأديب فهو يطرح قضية قد تكون آنية أو حصلت في الماضي أو توقعاً ورؤية للمستقبل، وهو يستعمل لايصالها كل ادواته وفي مقدمتها الخيال والمشاعر والموقف الشخصي، وقارئ الأدب يتميز عن القارئ العادي، بأن له القدرة على التحليل وفك الرموز، لذا في كثير من الأحيان حين يكتب بعض الأدباء في الصحافة لا يدركون أن القارئ ليس لديه وقت لاستخراج الحقائق والمعلومات من عباراتهم الإنشائية الملتوية الغامضة، أما قارئ الأدب والفكر اضافة الى قدرته على الفهم، قد يبقى تأثير المادة الأدبية معه مدة طويلة، كما أنها تسهم في تشكيل شخصيته وذائقته ووعيه؛ ولكن لا يمكن أن ننكر ان الصحافة من أهم العوامل التي أثرت في اهتماماتنا الفكرية ووصلت بالأدب عندنا الى هذا المكان، كما ان الكثير من الصحفيين اصبحوا فيما بعد أدباء، والكثير من الأدباء افردت لهم الصحف صفحاتها ليعبروا عن أفكارهم وهمومهم الأدبية والاجتماعية وحتى الشخصية، وفي وطننا العربي في ظل تدني أعداد القراء لكتب الفكر والنقد والرواية والشعر، كانت وما زالت الصحافة المورد المادي الأساسي للكثير من الكتّاب. ومن الاختلافات الرئيسة أيضاً بين الصحافي والأديب والمفكر والشاعر ان الصحفي لديه مواعيد عمل محددة للانجاز، أما الكاتب فهو من يتحكم ويحدد المدة التي ينجز بها مادته الأدبية؛ من يصدق أن عبقرياً مثل تولستوي كان يعيد كتابة فصول رواياته الطويلة مرات عديدة، وكذلك هيمنغواي الذي أعاد كتابة بعض فصول رواياته عشرات المرات، وهي ظاهرة شائعة لدى معظم الأدباء الروائيين. أما في الشعر، فكان الشاعر الرائد والمبدع بدر شاكر السيّاب يقول، إن مهمة الشاعر الرئيسة هي الحذف والاختصار. يبدو لي أن الفرق الجوهري بين الصحفي والأديب، هو درجة الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل منهما، الصحفي لا يمكنه أن يكتب حسب هواه، بل يلتزم بالسياسة التحريرية للصحيفة التي يعمل بها، ان لم يكن هو شخصياً مالك الصحيفة، أما الأديب فلا رقيب عليه سوى عقله وضميره وذوقه الفني. أما أوجه التلاقي بين الكتابة الصحفية والأدبية أذكر على سبيل المثال، ان الصحافة مدرسة نافعة للأديب، يستفيد من خبرة العمل فيها في ادامة وتعزيز اتصاله بالناس وتوسيع آفاق رؤيته للحياة والعالم، ما يشكل معيناً لا ينضب لتجربته الأدبية. وقد عمل العديد من كبار الأدباء في العالم كمراسلين صحفيين لسنوات طويلة؛ منهم هيمنغواي، الذي اتاح له عمله في ميادين القتال، أن يكون شاهد عيان على مآسي الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الأسبانية، وانعكس كل ذلك في رواياته وقصصه، كما أن الكثير من الكتاب الكلاسيكيين عملوا في الصحافة ومنهم أنطون تشيخوف، ومارك توين، وريمارك، واورويل الذي ظل طوال حياته يمارس كلا النوعين من الإبداع، وقال عنه النقاد إنه أعظم كاتب مقالات في الصحافة الغربية الى جانب كونه روائياً كبيراً.
أما من أشهر الأدباء العرب الذين بدؤوا حياتهم بالصحافة وانتهى بهم المطاف الى أيقونات في عالم الأدب ولا سيّما الرواية، أذكر، جمال غيطاني، يوسف العقيد، يوسف السباعي، سعد الدين وهبة من مصر، ومن العراق أحمد السعداوي و إنعام كجه جي وآخرين، واحلام مستغانمي من الجزائر وغادة السمان من سوريا وآخرين.
العلاقة المتداخلة بين الصحافة والأدب، ليس وليدة اليوم بل قديمة، ويمكن اعتبار العديد من نتاجات كتاب الرواية الكلاسيكيين "روايات وثائقية" بنيت على وقائع وأحداث حقيقية. وقد أخذت هذه العلاقة تتعمق وتتسع منذ الستينيات من القرن الفائت، ونجد اليوم أن الكثير من الروايات العالمية مبنية حول أشخاص حقيقيين وأحداث حيّة وواقعية. إنهم يكتبون ما حصل في الواقع، لتتخذ نتاجاتهم شكل الوثيقة، وهذا النوع من الأدب يمكن تسميته بالأدب "الفني – الوثائقي" أو الأدب غير الخيالي. وبذلك أخذت الحدود بين الصحافة والنثر الفني تتلاشى. وهذا ما أقرت به لجنة نوبل حين منحت جائزة الآداب لعام 2015 الى الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش، التي تنتمي رواياتها الست الصادرة حتى الآن الى هذا النمط غير الخيالي. وليس من السهل على الناقد الأدبي اليوم، ان يميز بين القصة الخيالية وغير الخيالية، ناهيك عن القارئ العادي.