العالم الغربي بعد كورونا !

العراق 2020/04/19
...

صالح الشيخ خلف 
 

في سابقة دلت على عمق الازمة التي يمر بها العالم الغربي، وتحديدا الولايات المتحدة، بعد « جائحة كورونا »، كتب وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر « أن التحدي الأساسي في هذه "المرحلة التاريخية" يكمن في إدارة الأزمة وبناء المستقبل... أما الفشل فيمكن أن " يحرق العالم " » . كيسنجر وان كان هرما عجوزا قد اخذ الشيب منه مأخذا، لكنه يبدو ما زال يتمتع بذاكرة جيدة عندما قال: « أعاد المناخ السوريالي الذي ولّده فيروس “كوفيد-19” إلى ذهني تلك المشاعر التي انتابتني حين كنت جندياً شاباً في فرقة المشاة الرابعة والثمانين في “معركة الثغرة”. الآن، كما كانت الحال في أواخر العام 1944، يسود الشعور نفسه بالخطر الوشيك الذي لا يستهدف شخصاً بعينه، وإنما يستهدف الجميع بشكل عشوائي ومدمر » ويستطرد كيسنجر في مقاله الذي نشره في صحيفة « وول ستريت جورنال » بداية شهر ابريل الجاري:  « ولكن ثمة فارقاً بين تلك الحقبة البعيدة وما نعيشه حالياً. قدرة الأميركيين على التحمّل في ذلك الوقت عززها السعي لتحقيق هدف وطني عظيم. اليوم وفي بلد منقسم، الحكومة الفعّالة البعيدة النظر، ضرورية للتغلّب على العقبات غير المسبوقة، سواء في حجمها أو في نطاقها العالمي » . 
وزير الخارجية الأميركي العجوز مثله مثل الكثيرين من المنظرين والعلماء الذين استشرفوا الاخطار التي تحدق بالولايات المتحدة وعلاقاتها في مرحلة ما بعد كورونا . هؤلاء ربما يلمسون ويرون عمق الازمة الداخلية التي تمر بها الولايات المتحدة الأميركية، والتي تتأثر بها العلاقات الأميركية مع عالمها الخارجي . 
لم تستطع النظرية القائلة بتبسيط اجواء كورونا الصمود في تفسيراتها حيال المرحلة القادمة، خصوصا في ظل الخسائر الاقتصادية الكبيرة والضخمة التي لم تشهدها الاعوام الخمسون الماضية، بينما تعتقد نظرية موازية لها بأن « فيروس كورونا » ما هو إلا حلقة من حلقات زلزال كبير ضرب المجتمع الدولي، من شأنه التأثير في الخارطة السياسية الدولية. أصحاب هذه النظرية يعتقدون بأن هذا الزلزال سيرسم خارطة جديدة للعالم، مثلما حدث بعد انتهاء الحربين العالميتين الاولى والثانية .
في الولايات المتحدة هناك ازمة اقتصادية واضحة وحقيقية معاشة يتحدث عنها الكثيرون، والحديث عن هذه الازمة ليس ترويجا من اجل معاداة السياسة الأميركية، بل هو واقع نبه عليه وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر، كما تحدث عنه آخرون لا يقلون أهمية عنه . هناك قلق من انخفاض الناتج القومي والنمو الاقتصادي وزيادة في معدلات البطالة . ربما تستطيع دول اخرى تحمل مثل هذه المشكلات، ولكن دولة مثل الولايات المتحدة يصعب عليها ذلك . 
حتى الآن، تسير الأوضاع والتطورات داخل الولايات المتحدة في اطار التنافس بين الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري، ولا سيما أن الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية مهمة في نوفمبر القادم، وبالتالي فإن ما يحدث في الداخل الأميركي ربما هو توظيف لهذه الانتخابات، كلٌ على طريقته الخاصة، لكن هذا لا يمنع من لمس حالة من العصيان ضد الحكومة الاتحادية، وتحديدا في ولايتين مهمتين، هما نيويورك وكاليفورنيا المتذمرتان من معالجات الحكومة الاتحادية بشأن انتشار فيروس كورونا .
هناك مشكلة بيع النفط الصخري الذي قررت الحكومة الاميركية بيعه في السوق العالمية، فهو الان يواجه اصعب حالاته في ظل انهيار الاسعار الذي وصل الى مستوى اقل من 20 دولارا للبرميل الواحد . صحيح ان هذا الانهيار يضر باقتصاديات الدول المنتجة للنفط أوبك، كما انه يضر بدول « اوبك بلاس »، لكنه يضر ايضا بالاقتصاد الاميركي الذي يريد لملمة جروحه بعد ازمة كورونا . 
في موازاة ذلك، ظهرت الدول الاوربية بانها غير متماسكة وغير قادرة على معالجة مشكلاتها، الامر الذي ادى الى ان بعض الدول اصبحت تفكر بشكل جدي بالخروج من الاتحاد الاوروبي الذي لم يستطع مساعدتها في أوقات الازمة . هذا  الامر أسهم الى حد بعيد في التأثير في الرأي العام العالمي، والتأثير في الثقة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي داخل المجتمع الدولي . هذه الاوضاع سوف تدفع الاتحاد الاوروبي الى حالة من الخمول والتراخي وعدم الانسجام، وصولا الى مسارين، إما انهيار الاتحاد الأوروبي، أو فقدان بريقه السابق في التأثير والتأثر ودوره في النظام الدولي .
ربما تفكر الدول الاوروبية الرئيسة مثل فرنسا والمانيا بالعمل على صمود الاتحاد الأوروبي وإنقاذه، ولكن الاكيد أن الاستعانة بالولايات المتحدة لحل مشكلات الاتحاد ستوقع هذه الدول بمشكلة اخرى هي في غنى عنها . أميركياً، هناك خشية من لجوء الولايات المتحدة الى اجراءات غير طبيعية وغير نمطية من اجل حل مشكلاتها، على حساب دول وشعوب المجتمع الدولي، تقوم بها « الدولة الخفية » المتشكلة من اصحاب معامل السلاح ومعامل الادوية وشركات النفط واصحاب المال واجهزة المخابرات . 
إن المجتمع الدولي مدعو بشكل جدي للتفكير بمستقبله بعيدا عن السياسات التي تفكر بها مؤسسات لا تريد أن تأخذ بنظر الاعتبار أهمية الإنسان وأهمية البشرية على هذا الكوكب . إن مثل هذه الدعوة لا تعني الانحياز للجانب الصيني أو الروسي كبديل عن أميركا وأوروبا، ولكن هناك دعوة للتفكير بالدخول كلاعب في أية ترتيبات أمنية أو سياسية تفرضها مرحلة ما بعد كورونا .