تحولٌ في أنماط التفكير الثقافي

ثقافة 2020/04/20
...

يوسف محسن
 
 
كارثة  الكورونا التي تضرب العالم  كـجائحة معولم سوف تسهم بإعادة النظر بكل النظام القيمي والاقتصادي والنظام الثقافي،انماط التفكير والعيش والأنماط الاقتصادية والاجتماعية التي سادت العالم   في اوروبا  واميركا بعد الحرب العالمية الثانية ، هي تشبه بالمنعطف التاريخي والبدء بتشكل نظام عالمي جديد، او اننا  في طور مخاض قاس، وان ثمة مخاوف حقيقية من مخاطر محتملة لعالم آخر في طور الولادة . وكما يقول التشكيلي عادل سليم : علائم  هذا التغيير هي  الإقرار بإخفاق وعود العولمة في هذه المواجهة وتآكل الثقة في الطروحات النيوليبرالية وبداية ترنح سياساتها  او قد يعاد النظر في هذا الانموذج  الفج،  لصالح نسخة من (المستبد - العادل )لإعادة الهيبة والسيطرة  للدولة الهشة القائمة،  والضرورية بمواصفاتها المعروفة،  لمواجهة تحديات عالم مابعد كورونا . 
 
لم نفكر بالعزلة
يقول الاكاديمي والباحث فالح مهدي : لعبت الأحداث العظيمة وعبر التاريخ البشري أدواراً في صناعة التاريخ وتعديل المسيرة الانسانية . في عام 1944 وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كتب سارتر (لم نكن احراراً إلا خلال الاحتلال النازي )اثار ذلك التصريح ردود فعل عنيفة ولم يفهم في تلك اللحظة ولكن وبعد مرور الزمن تم استيعابه وفهمه . لقد أراد ان يقول اننا لم نفكر بمفهوم الحرية كما حصل خلال فترة الاحتلال.
ويبين ان حصر التحولات العظيمة بالتحولات الجيولوجية أو الاقتصادية والاجتماعية فيه اختصار شديد لفهم التاريخ البشري . فمن المتفق عليه ان الثورة الفرنسية أحدثت تحولاً في أنماط التفكير والعيش والأنماط الاقتصادية والاجتماعية . الثورة الفرنسية كانت نتيجة لمجموعة هائلة من الجهود وعلى كل المستويات ولدت في ايطاليا ، وفي انكلترا ومن ثم فرنسا ، حيث كانت الشرارة للفصل بين الدين والدولة وأصبحت القوانين البشرية  تكتب من قبل مختصين من اجل مواطني ذلك البلد بعد ان احتكرت أمرها العقائد الدينية. كما اصبح من المؤكد ان نتائج الحربين العالميتين الاولى والثانية كانت كارثية بيد انهما ادتا الى حصول تطور مذهل فيما يتعلق بالحريات وانعتاق المرأة واسهمت الثانية بإيجاد نظام التكافل والضمان الاجتماعي في مجال الصحة . في كتابي (تاريخ الخوف : نقد المشاعر في الحيز الدائري )اشرت الى موضوع الطاعون في أوروبا القرون الوسطى على النحو التالي ليس هناك من كارثة يمكن مقارنتها بالطاعون في ذلك العام. فعندما يموت وخلال ثلاثة اشهر ثلث سكان القارة الاوروبية ، فان النتائج الاجتماعية والنفسية توازي ذلك الحدث الأصم. فتلك القلة التي نجت من ذلك الوباء تقاسمت الأرض التي تركها الاباء أو الأجداد . ومن نتائج ذلك الوباء غير المحسوبة،  انه رفع من مستوى العيش وقلل من القلق الاوروبي الناتج عن زيادة السكان.
وبين الاكاديمي فالح مهدي ان :  كارثة  الكورونا ستسهم بإعادة النظر بكل النظام القيمي الذي ساد في اوروبا  واميركا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد بلغت الفردية المرتبطة بالأنانية حدوداً مرعبة . يقارن بعض المهتمين بالشأن الاقتصادي نتائج هذه الكارثة بتلك  التي أدت الى الانهيار الاقتصادي الذي حصل في العام 1929 وكان من  نتائجه قيام الحرب العالمية الثانية . ستضطر الدول الأوروبية الى إعادة النظر بنظامها الصحي والقيام بتأهيله مجدداً .  وبرزت خلال هذه الفترة اي الحجر الصحي وبقاء الناس في بيوتها علامات مُشرفة ، بتبرع عدد كبير من الناس بتقديم الخدمات مجاناً للمستشفيات ولكبار السن ولكل ما هو نافع.
 
عالم مابعد كورونا
يرى الفنان التشكيلي عادل سليم : ان ثنائية ماقبل - ومابعد هي الطاغية اليوم في الحكم على التداعيات الكارثية التي يمكن أن تنتج عن هذه الجائحة، على الصعد كافة،  فعالم مابعد كورونا مختلف عما قبله، وهناك إجماع على وصف مايحدث بالمنعطف التاريخي وعلى بدء تشكل نظام عالمي جديد، واننا في طور مخاض قاس، وان ثمة مخاوف حقيقية من مخاطر محتملة لعالم آخر في طور الولادة . أولى علائم  هذا التغيير هي  الإقرار بإخفاق وعود العولمة في هذه المواجهة وتآكل الثقة في الطروحات النيوليبرالية وبداية ترنح سياساتها . مع التوجس من الدخول القوي  للصين  على مسرح الأحداث في إعادة صياغة ملامح حقبة تقطع بشكل جذري مع ما قبلها .
ويوضح  : قد يكون الإنكفاء إلى حدود الدولة الوطنية وتنامي المشاعر الوطنية مع تصاعد الرفض للآخر ، وثمة قلق حقيقي إلى جانب ذلك من خيار الطوارئ الذي قد يسوغ كنظام حمائي مشروع ومبرر،  لكن قد يستغل في النهاية لفرض أحدث نظم المراقبة التقنية بما يقوض ميراثاً باكمله   من التشريعات المعززة للحريات الخاصة والعامة .وقد نشهد إعلاء في المقابل من شأن دولة الخدمات الضرورية،  ومن شأن ذوي الخبرة والمهارة في سلم المكانة الاجتماعية،  ونوعاً من تسوية مرضية لاشكالية الإقتصاد - أم المجتمع،  والإنسان - أم الربح،  بما يصب في النهاية في مصلحة الإنسان والمجتمع ويؤسس لتجاوز آثار هذه الجائحة ومثيلاتها من الجوائح مستقبلا  .
 
التفكير الثقافي العراقي
ويوضح الاستاذ سليم  : طبقا لفهمنا للثقافة بإطارها الأوسع،  فلن يكون بالإمكان بالمثل توقع جديد في ضوء المعطيات العراقية  . فتعذر إمكانية التأسيس لفكرة الوطنية العراقية، وتجاوز واقع تعدد الولاءات وتوزعها،  والجهل والتجهيل الضارب بأطنابه،  وعجز الفاعليات الناهضة عن بلورة رؤية واضحة للخلاص،  وتشرذمها عوضا عن توحيد إرادتها في تنظيم سياسي يتقاطع مع كل القوى العابرة للوطنية والتيارات السياسية الدينية التقليدية والأسرية، سيضعنا في وضع المتلقي السلبي  نفسه الذي  عليه اليوم . وأفضل مايمكن تخيله لذلك هو توصل اللاعبين الكبار الفاعلين على الأرض لتسوية مايسمح بتجنب  تحويل البلاد إلى ساحة صراع لاقبل لنا على تحمل نتائجه .  وأما الأسوأ فهو تمني وقوف من بيدهم الأمر،  مع الحليف الأكثر منفعة نسبيا لنا للتخفيف من اضرار الجائحة ، مع  تحمل تبعات هذا الموقف التابع وآثاره التي لا تقل كارثية عن الجائحة.
 
الإنسان ذو البعد الواحد
اما الاكاديمي صلاح محسن فهو يبين المسار التاريخي للعولمة  في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي بعد انهيار جدار برلين والإتحاد السوفييتي وهيمنة وانتصار النموذج الرأسمالي ، وذوبان الحدود وعولمة السوق ، أصبح العالم أشد ترابطاً وتداخلاً وتأثراً ببعضه البعض ، منذ أن صاغ الكندي مارشال مال لوهان أستاذ الإعلاميات السوسيولجية في جامعة تورنو مفهوم (القرية الكونية)، دخل العالم في أعتاب مرحلة جديدة ، عُقدت على هامشها المؤتمرات والندوات ، وصدرت المؤلفات واحتدم النقاش ، بين مؤيد ومعارض ، وهذا مشابه بالتمام لما سوف يحصل بشأن هذا المرض و (الفيروس العولمي (العابر للحدود والقارّات ، وهو مثل العولمة تماماً بل وأشد خطراً منها بتبعاته السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، بعد أن أصبح الاسيوي بثقافته وعاداته وتقاليده موضوع استهزاء وسخرية ، وهذا ما تعرض له الكثير من الآسيويين في بلدان العالم ، فما بالك بالصينيين وسكان مدينة ووهان مركز الوباء ، والذي أصبح بمثابة شكل من أشكال الوصم الاجتماعي ، بل حتى الرئيس الاميركي  ترامب لم يتردد بوصفه بالفيروس الصيني ، علماً إن الاتجار بالحيوانات البرية ليس مقتصراً على الصين فقط ، هذا إن صح افتراض أنه انتقل عن طريق براز الخفافيش، ومنها إلى الحيوانات الأخرى ، وليس بالضرورة عن طريق أكل الحيوان الحامل للفيروس نفسه بالأصل ، وما هو أشد خطراً هو انهيار نظام الاقتصاد العالمي، الذي من المحتمل أن يقود إلى حروب مقبلة في عالم متداخل، قائم على تفاهمات وتوازنات هشة وسريعة العطب ، هذا الفيروس لا يعترف بالتقسيمات الجغرافية لما يسمى المركز والأطراف ، عالم متقدم وعالم متخلف ، بل أصاب مركزية الانسان نفسه بوصفه مالكاً للطبيعة ومسيطراً عليها ، اصابة مباشرة ،) العولمة السعيدة ،القرية الكونية)أصبحت سجناً إجبارياً وزاد من اغترابنا بأن ألغى أجسادنا ، وعزّز حضورنا الافتراضي أكثر وأكثر وأشد قسوة من ذي قبل ، وطرح علينا أيضاً مشكلاً أخلاقياً تجاه البيئة والاعتراف بالكائنات الأخرى كشريكٍ لنا في هذا الكوكب ، كون (الإنسان ذو البعد الواحد)هو المسؤول الأول والأخير عن العبث بنظامه ، عدا ذلك فان (الإنسان سيتلاشى كما يتلاشى على شاطئ البحر وجهٌ من الرمال) كما قال مرّة (فوكو) .