ليلة الهلال!!

الصفحة الاخيرة 2020/04/21
...

حسن العاني 
 

أغلب الظن إنه يوم يعود الى اواخر العقد الاربعيني من القرن الماضي، كنتُ دون سن المدرسة، اعلق في كتفي حقيبة قماش تدعى (العليجة)، في داخلها القرآن الكريم، وأذهب كل صباح مع أقراني في دوام رسمي الى بيت (الملاية) نتعلم على يديها الانضباط والاخلاق وترتيل الكتاب.. ولم تكن مفردات الهلال والصيام ورمضان والافطار غريبة على معارفنا الطفولية، فقد كانت تلك المرأة النبيلة جزاها الله خيراً، تقدم لنا مع القراءة شيئاً مبسطاً من التفسير والآداب الاسلامية العامة...
المنطقة هي الرحمانية الكرخية، ذات البيوت الطينية وسقوف (الخشب والبواري وجذوع النخيل)، وفي ذلك اليوم الاربعيني بحسابات الذاكرة، صعدت مع (عائلتي) الى السطح الترابي، كانت سطوح المنازل كلها طينية وبارتفاع واحد، وعوائل الرحمانية جميعها في ذلك الوقت القريب من المغرب فوق السطوح، في مهمة مشتركة لمراقبة الهلال (هي أول مشاركة لي في تلك المهمة)، كانت السماء يومذاك، وربما الايام كلها كذلك، زرقاء صافية، لم تلوثها الحروب، ولأن العيون لم تطأها غشاوة الطائفية المستوردة، وهكذا بدت المهمة يسيرة، ومن مكان لا اظنه بعيداً ازت رصاصة، وكأنها كلمة السر او تنبيه للآخرين بان أحدهم وضع الهلال بين عينيه، وسرعان ما سرى حديث بصوت مسموع واشارات بالأيدي، دفع سكان السطوح لتركيز اهتمامهم على ركن محدد من السماء بحثاً عن خيط ذهبي تائه في بحر ازرق، ومن مكان أكثر قرباً انطلقت "هلهولة" طويلة كان لها صدى الفرح في الروح، اعقبتها رشقة من الزغاريد والهلاهل بالفصحى والعامية، جعلت الناس تطمئن الى ان هذا الزائر الذهبي الجميل الخجول قد زار مدينتهم واكرمها باطلالته البهية، وان كانت زيارته سريعة واطلالته قصيرة..
كان أبي (رحمه الله) معتل الصحة، وهو يتوكأ على عكازِه، حزيناً، لان الهلال افلت من قبضة عينيه الواهنتين، لولا إنني بخمسة اعوام ، لا يقبل أحد شهادتها اقسمت لوالدي على طريقة الرجال، وكنت صادقاً، بأنني رأيته، ورسمت صورته على راحة يدي، ثم مددت سبابتي نحوه.. عندها اشرق وجهه بابتسامة عريضة، ورفعني بين يديه بصعوبة، وأودع خدي قبلة وكأنني أتيت بمعجزة (رؤية الهلال في تلك الايام التي ندعوها، أيام زمان، يسيرة جداً في بغداد، لعدم وجود أبنية من طبقتين او ثلاث او ست او عشر او أكثر تحجب الرؤية)، وفيما كان الكبار يتبادلون التهاني ويرفعون اكفهم المقعرة امام وجوههم وهم يتمتمون بأدعية غير مسموعة، رفعت كفي مثلهم ومثلهم كنت انظر الى موضع الهلال ومثلهم تحركت شفتاي، لكنني لم انطق بكلمة واحدة، إذْ كنت أجهل ذلك الحوار السري بين الارض والسماء!!
اصبحت الرحمانية صائمة عن بكرة ابيها، الا نحن الاطفال حيث رفع المجتمع عنا تكليف الصوم بفتوى عرفية، وهكذا تغيرت مشاهد الحياة في البيت والشارع والسوق وانواع الاطعمة ووجبات الاكل الا طفولتنا حافظت على سلوكها، بدليل انني طالبتُ والدي بدفع (درهم) والححت في طلبي، وحين سألني عن السبب قلت له من منطلق المسيطر، اجور رؤيتي للهلال!! ودفع المبلغ وهو يختنق من الضحك...