محمد جبير
يرسخ حميد الربيعي في سرديته الروائية الجديدة "جمرات يارا" ما كان قد بدأه في سرديات سابقة، كانت أولى هذه الشرارات قد بدأت في الظهور عام 2015 في سردياته القصصية التي احتواها كتاب "بيت جني"،إذ تشكّلت النصوص الـ"15" وفق رؤية سردية مختلفة عن السرديات القصصية السابقة من حيث الرؤيا الجمالية والفنية، وكأن هذا الكتاب كان مؤشّرا لبداية مرحلة جديدة في حياة الكاتب.
منذ أن بدأ يكتب وغادر العراق لم يعش لحظة استقرار واحدة، لذلك كان الشتات تشتتا للذاكرة السردية، التي لم تستطع أن تدوّن مخزونها الحياتي من حكايات وتجارب، وإنما راح يقتات على خزين معرفي من الحكايات والصور "ستكون كلمتنا، لقد خربت جنتنا، أخوة الشيطان جعلوها جحيما"" ص96- م- بيت جني – ق – في البدء"،منذ تلك البداية التي كانت أشبه بالومضة لفتح طريق جديد أمام مسارات حميد الربيعي الكتابية، إذ غادر التشتّت نحو استقراء واقع خرب كان يحلم أن يكون جميلا أو أجمل من حكايات ألف الليلة، ولكنه رأى فيه الشُطّار والعيارين وعلي بابا وحوارية وإنساناً مغيّباً يبكي على أربعة عشر قرناً مضت من دون أن يفكّر في حاضره ومستقبله، لذلك كانت قصته تلك الأخيرة، ذات الرقم"15" تحمل هموم وشخصيات وثيمات وخلاصات الأربعة عشر نصاً السابقة والتي ضمّها كتاب "بيت جني"، وفيه يختم جملة الابتداء السردي بالدعوة "هيا نبحث عن المنابع الأولى".
ما هي تلك المنابع؟ المتلقّي لا يدرك ما يفكّر به الكاتب، لأنّه لا يمكن أن يدخل إلى عقله ويفكّر بالنيابة عنه، وإنّما قد يكون مراقبا ومؤولا لنصوص وإشارات لاكتشاف ما يريد أن يبثّه بين السطور من رؤى وأفكار وإشارات،من يبحث عن تلك المنابع الأولى؟ الكاتب، السارد، المتلقّي، هو، نحن، قد يذهب المتلقّي إلى المنتج السابق لهذا النصّ للبحث عن تلك المنابع واكتشاف ما يمكن اكتشافه في إضاءة هذا النصّ إلا أنّ ماسبق قد يشكّل نقطة في مرحلة مضت وهو بمنزلة كنس الذاكرة مما علق بها من مخزون سردي يؤشر إلى تجارب سابقة يندمج فيها السيري مع الخيالي لتأسيس نصّ سردي.
فقد اتّسمت تلك التجارب السابقة "تل حرمل– مجموعة قصص"، وروايات "سفر الثعابين – تعالى وجع مالك، دهاليز الموتى – جدّد موته مرتين" بسمات تفريغ الشحنات الجمالية والحياتية لتصفية الذهن الإبداعي وتهيئته إلى ما هو أبعد ألا وهو الذهاب باتّجاه الخلق والابتكار الفني من دون أن يغادر مرتكزاته الجمالية.
أحبّ بغداد التي غادرها مرغما وعاد إليها ليعيش ويرى ويرصد خرابها، إلّا أنّ مارآه من خراب أوجع قلبه، لذلك راح يبحث عن صور الجمال في ركام الدمار والقبح، فكانت سردية "أحمر حانة وعطر غيمة وجمرات يارا" لتشكل منحى جديداً في تجربة الكتابة السردية، اعتمدت هندسة بنائية للحكاية ورؤى جمالية تحارب القبح الذي يريد أن يسود وتزكم رائحة فساده أنف الإنسانية، وهو ما يرفضه الكاتب الذي يهطل عليه بعطر غيمته السردي " وعندها قرروا، بعدما تخلّصوا من رائحة التفسخ، وهم العترة الباقية لسلالات مبادة وقبائل مندحرة وأقوام مشردة، أن يعيشوا معا ويصنعوا شيئا جديدا" ق- حين يجتمعون –م- غيمة عطر- ص80".
ولكن كيف يجتمعون؟ وأين يجتمعون وهم يعيشون عذابات التهجير القسري؟ ذلك ما تجيب عنه سرديته الجديدة "جمرات يارا "، وكأن النصوص التي يكتبها حميد الربيعي هي نصوص توليدية تنتج رؤاه الجمالية من نصّ إلى الآخر بحثا عن التكامل أو الكمال السردي، لكن هذا المشروع التكاملي يبقى في إطار البحث مثلما هي الحياة في حكايات السردية هي رحلات وتجوال في الشتات بحثا عن الوطن الذي يحب ويكون المشتهى والمستقر، وهذه الرؤيا لا تختلف كثيرا عن الشاهد النصّي الذي ثبّته الكاتب قبل الدخولإلى النصّ "حين أعزف أجلب فضاءات وأوطانا بعيدة، أجعلها ترفرف مثل أجنحة"، وهذا ما يقوله "مزهر الشادي" في "ص118" السارد الرئيس في النصّ، وهو ذات الأمر الذي يختم فيه نصّه السردي حين يستلّ شاهداًنصّياًآخر من "ص133" يرد على لسان يارا وهو "عندما أرقص، تأتيني الأنوار هابطة من السماء، فأتزيّن بضوئها، كمن يستحم".
عزف ورقص، فعلان جماليان يقوم بهما مزهر ويارا ليخلقا عالماً ساحراً من الحكايات التي يسردها الراوي الذي رافق رحلة العائلة التي تبحث عن جذورها الأولى من أرمينيا إلى بغداد عبر أزمنة مختلفة ومتداخلة، يدخل فيها الوهمي –الحقيقي و"الحقيقي–الوهمي" الذي يرسم رحلة العودة للابن الذي يبحث عن جثة الأم من باريس الى تنمبكو إلى بغداد "إلى بغداد يعود ابن مزهر الشادي، وأمه يارا هي من أغرته بهذه العودة، برغم مقته لهذه المدينة"" جمرات يارا-ص 14".
نصّ "جمرات يارا" هو "حكاية تفضي إلى حكاية، فكان لابدّ من أن تطلّ برأسها حكاية أمي، عاجلا أو آجلا، هي الخميرة التي انطلقت منها بقية الحكايات وتشعّبت، وربما لا أحد يعرف المسارات التي سلكتها الأحداث، لكنّ التشظي أدّى إلى تلك النتائج وصلنا إليها، أمّي لم تكن محور حكاية بحدّ ذاتها، وإن اختطت لها سيرة خاصة، بيد أنها نتجت من مرويات قديمة، موغلة بالتاريخ ومازالت تتفاعل، مثل جمرة تحت رماد، تتوهج وتطلق شرارتها كلّ حين،كما في الألعاب النارية""الرواية –ص66"، هذا الاتّجاه السردي الذي اختطه حميد الربيعي كأسلوب خاص به عبر أربع تجارب سردية في "مجموعتين قصصيتين هما بيت جني وعطر غيمة وروايتين هما أحمر حانة وجمرات يارا"، تؤشر إلى اشتغال جمالي يسعى الكاتب من خلاله تأكيد تمرّده على ماهو سائد من كتابات وماهو سائد من مهيمنات ليخلق له عالماً خاصّاً حتى وإن كان في أوهام ناسج أو سارد يريد أن يتآلف معه أو يسعى إلى الاجتماع به من أجل كنس رائحة الجثث المتفسّخة والقيم ذات الروائح الفاسدة التي فاحت بها كتب التاريخ الصفراء وتريد أن تجد لها مكانا في حياتنا اليومية لتعيق خطواتنا للمستقبل.